Archive for مارس, 2015



د.نوال السعداوى

download

أشرقت الشمس لحسن حظي، فى مدينة لندن خلال مارس 2015،وقد تلقيت الدعوة للتحدث فى مؤتمر المرأة العالمي، وامتلأت القاعة
بمئات الشباب والشابات فى العشرينيات والثلاثينيات من العمر، هؤلاء هم جمهورى اليوم داخل الوطن وخارجه، قرأوا كتبى بالعربية أو المترجمة، بعضهم من البريطانيين، وبعضهم من العرب أو من مصر وبلاد أخرى فى آسيا وإفريقيا، أحفاد وحفيدات الذين هاجروا من أوطانهم، هربا من القهر السياسى أو طلبا للتعليم العالى أو بحثا عن العمل إلى جوارى على المنصة كان يجلس أحد نجوم الإعلام البريطاني، وهو رجل ضخم الجسم ممدود العنق، بدا كالطاووس منفوخا بنفسه، لكنه انتهى منكمشا فى مقعده، بعد أن سقط وجهه وهو يحاورني، وقفت القاعة الكبيرة معى بشبابها وشاباتها وصفقوا لى وقوفا.

كان حديثى يدور حول الإبداع والمرأة والثورة، وعن الشعب المصرى بنسائه ورجاله من جميع الفئات والأعمار، الذين نجحوا فى إسقاط مبارك بثورة يناير 2011، ثم إسقاط حكم الإخوان المسلمين بعد ثورة يونيو2013.

لكن النجم الشهير (كعادة النجوم فى العالم ) لم يكن يدرك ما يحدث فى مصر، بل كان يجهل أبسط الحقائق عن الشعب المصرى ونضاله ضد الاستعمار الخارجى والاستبداد الداخلى، وقد تصور أن ماحدث عندنا ليس ثورة شعبية بل انقلابا عسكريا ضد الحكم الديمقراطى وسألته: أى حكم ديمقراطى تقصد؟ قال: حكم الإخوان المسلمين برئاسة مرسى سألته: هل كان ذلك الحكم ديمقراطيا؟ قال: نعم سألته :كيف عرفت أنه ديمقراطى ؟ قال: جاء حكم الإخوان بالانتخابات سألته: وهل الانتخابات هى الديمقراطية ؟ سكت طويلا فسألته : وهل يمكن لأى حكم دينى، إسلامى أو مسيحى أو يهودى أو غيره، أن يكون ديمقراطيا ؟

لم يكن هذا الإعلامى الطاووسى (الذى يدعى العلم بأحوالنا أكثر منا) هو الوحيد الذى يرفض ثورة يونيو 2013 الشعبية فى مصر، التى أسقطت الحكم الدينى المستبد، بل هناك عدد غير قليل من أمثاله، أساتذة جامعات من البريطانيين، ومن الأساتذة العرب والمصريين، ممن يعتبرون أنفسهم من اليسار الاشتراكى أو الماركسي، هؤلاء فقدوا المنطق البسيط أو البديهيات، خوفا من القوى الحاكمة البريطانية، أو تملقا للقوى الإسلامية التى نمت وترعرعت فى ظل الحكومات المتعاقبة فى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية منذ رونالد ريجان ومارجريت تاتشر .

خلال وجودى فى لندن تلقيت دعوات لإلقاء محاضرات فى بعض الجامعات داخل لندن وخارجها ، فى أكسفورد ومانشستر وجولد سميث، وجامعة أدنبرة فى اسكتلندا وغيرها، وكان أغلب الشباب والشابات، الطلاب والطالبات، أكثر وعيا من الأساتذة، بما يحدث فى بلادنا، وقد رفض المسئولون بإحدى الجامعات فى لندن دعوتى للتحدث بها، وجاءتنى رسالة اعتذار وتوضيح من إحدى الأستاذات البريطانيات بهذه الجامعة تقول لي: اعترض رئيس قسم الدراسات العربية (وهو مصرى أصلا) ورئيسة قسم الدراسات النسائية (وهى عربية أصلا) وكبار المسئولين فى الجامعة من اليسار البريطاني، اعترضوا على دعوتك للحديث بها، بحجة أنك تساندين الحكم العسكرى الحالى فى مصر برئاسة السيسي، الذى اقترف (فى رأيهم)عددا من الجرائم ضد الديمقراطية وحقوق الانسان، وكنت الأستاذة الوحيدة من الإشتراكيين اليساريين، وبعض زملائى أساتذة قسم الدراسات الإفريقية، الذين تحمسوا لدعوتك.

ويدور النقاش الحامى الآن بين الفريقين، المعارض والمؤيد لك، وأخشى أن تغادرى لندن دون أن نصل الى قرار، ولعلك قرأت فى الصحف أن حكومتنا الرشيدة برئاسة كاميرون سوف تعلن غدا (الاثنين 16 مارس 2015) أن الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، لكن هذا دخان إعلامى فقط ، فالحكومة البريطانية تسير على خطى الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبى وإسرائيل، ولا يمكن لكل هؤلاء الاستغناء عن خدمات الجماعات الاسلامية الارهابية، لتفتيت وتجهيل وتخويف الشعوب، ابتداء من تنظيم القاعدة إلى الطالبان الى الإخوان المسلمين وحماس وبوكو حرام وغيرها.

السبت14 مارس 2015 قام كاميرون رئيس الوزراء البريطانى بمشاركة وزير المالية الهندي، بإزاحة الستار عن تمثال المهاتما غاندي، فى ميدان البرلمان، انتصب غاندى نصف العارى بجسده النحيل متحديا البرد عام 1931 فى زيارته الأولى لبريطانيا، حين سأله الملك الامبراطور : لماذا لا ترتدى ملابسك؟ قال غاندي: أنت يا سيدى ترتدى لنا نحن الاثنين. تم بناء هذا الميدان أمام البرلمان عام 1868، بناه المهندس المعمارى تشارلز داري، أمام كاتدرائية وست مينستر آبي،ينتصب فيه أحد عشر تمثالا لشخصيات تاريخية، منهم أول من اخترع النظام البوليسى البريطانى الحديث( الكونستابلات )،هنرى جون تنبل، كان رئيسا للوزراء من 1834 – 1846، بنى تمثاله 1876، ثم إبراهام لينكولن( بنى تمثاله عام 1920) ثم تمثال جان سموث، رئيس وزراء جنوب إفريقيا قبل العنصرية، بنى تمثاله1956، ثم وينسون تشرشل( بنى تمثاله 1973 )، نلسون مانديلا (بنى تمثاله 2007) وينتصب اليوم تمثال غاندي، بين هؤلاء الحكام بملابسهم القوية وأجسامهم الفتية، يقف المهاتما عارى الساقين النحيلتين تنم ملامحه عن الفقر والهزال، لكنه أصبح من أهم الشخصيات الإنسانية التى لعبت دورا فى النضال ضد حكم الذين يقفون معه فى ميدان البرلمان بقلب لندن.

رأيت شابا هنديا، يلف جسمه بشال قديم يشبه الذى يحوط كتفى غاندي، رأيته يتطلع إلى التمثال ويتنهد : إذا كان غاندى قد فعلها فلماذا لا أفعلها وأنا هندى فقير مثله ؟


نوال-السعداوي_9958

د.نوال السعداوى

أصبحت الصورة أشد بشاعة من الحقيقة فى هذا الزمن القائم على الصور، هل يمكننا التعرف على إنسان ليس له رأس أو وجه؟ لكن الحزب السلفى
وأغلب الأحزاب السياسية المصرية ومنظمات المجتمع المدنى وحقوق الإنسان، أصبحوا لا يرون إلا رءوس الرجال، مسلمين أو أقباطا، وحقوق الإنسان( فى نظرهم) لا تشمل حقوق النساء، وإن حصلوا على الدكتوراه فى تحرير المرأة، تظل صورتها راسخة فى وجدانهم منذ الطفولة، منذ رسمها مدرس الدين على السبورة، على شكل ضلع أعوج أو جسد بغير رأس، وإن ظهر للمرأة » رأس » فهو عضو شاذ، يجب قطعه أو إخفاؤه، امرأة تعجز عن الدفاع عن حق رأسها فى الوجود هل يمكنها الدفاع عن شىء آخر؟

امرأة ليس لها وجه يميزها عن ملايين البشر، كيف يمكنها أن تكون عضوة فى حزب سياسي، تواجه خصومها السياسيين، وتدافع فى البرلمان عن حق الآلاف من الرجال والنساء فى دائرتها لامتلاك رءوسهم؟

الصحف، يوم26 فبراير 2015، نشرت صور «كارنيهات» لعضوات الحزب السلفى بغير رءوس أو وجوه، والمانشيت يقول: سمح حزب النور السلفى لأول مرة لعضواته بالحصول على كارنيهات عضوية وكانت محظورة من قبل لكن مكان رأس المرأة مساحة خالية.

إن قطع رأس المرأة المسلمة فى صور الحزب السلفي، لا يقل بشاعة عن قطع رأس الرجل القبطى فى فيديو داعش، أو تحطيم آثار العراق فى الموصل، وترتفع الأصوات منددة بما حدث للأقباط وللتماثيل الأثرية، فلماذا لا نسمع صوتا يندد بما يحدث للنساء فى الحزب السلفى؟ وهؤلاء النساء لماذا لا يدافعن عن حقوقهن وكرامتهن؟ لا شك أننا نعود الى الوراء قرونا، رغم أربع ثورات كبيرة (وليس ثورتين اثنتين) : ثورة 1919،ويوليو 1952، ويناير 2011 ويونيو 2013) وفى كل ثورة طالبت الملايين بالعدالة والحرية والكرامة لجميع المواطنين نساء ورجالا مسلمين وأقباطا كيف أجهضت هذه الثورات؟ والدستور الذى يمنع تكوين أحزاب دينية هل أصبح حبرا على ورق؟ كيف تخالف الدولة الدستور وتسمح بوجود حزب النور السلفي، رغم أنه بؤرة لأكثر المفاهيم تخلفا، إذ يقوم على فكرتين متناقضتين:

1 – إن الرجل يعجز عن التحكم فى شهوته إن رأى امرأة عابرة، ولهذا يجب تغطية جميع النساء؟

كانت العدالة تقتضى تغطية عين الرجل الفاسد أخلاقيا وليس تغطية كل النساء

2 – إن المرأة ناقصة عقل ولهذا يحق لزوجها السيطرة عليها وتأديبها بالضرب إن عصت أوامره، واجبه الإنفاق عليها، بشرط الاستمتاع بها، فإن عجزت لا ينفق، وإن مرضت يتولى أهلها علاجها، لعجزها عن إمتاعه فى أثناء مرضها، وإن ماتت لا يدفع ثمن كفنها أو تكاليف دفنها، لانعدام شرط الاستمتاع بها بعد موتها، ومن حقه أن يطلقها فى أى لحظة حسب مزاجه، وأن يتزوج أربع نساء فى وقت واحد، هذه عينة من الأفكار السلفية المتناقضة المهدرة لكرامة المرأة والرجل معا، فكيف يعجز الرجل عن التحكم فى شهوته الى حد إخفاء النساء تحت النقاب أو الحجاب؟، ثم كيف ينقلب هذا الضعيف أمام شهوته ليصبح الأقوى الذى يؤدب النساء ويضربهن؟

وكيف تنقلب هذه الضعيفة الناقصة عقلا لتكون الأقوى القادرة على التحكم فى شهوتها فلا يفرض على الرجال الاختفاء تحت حجاب؟ هذه أسئلة بديهية لأى عقل يفكر لكن الأنظمة التعليمية أصابت عقولنا بالعقم والعجز عن التفكير، ورؤية التناقضات الصارخة التى تمر أمامنا، ومنها تناقضات الدولة نفسها، وضياع هيبتها وعجزها عن تنفيذ الدستور والقانون؟

لعب الحزب السلفى دوره السلبى فى لجنة الخمسين، تخاذلت جميع القوى السياسية داخل هذه اللجنة أمام هذا الحزب، وقررت النص فى المادة الثانية من الدستور، على أن دين الدولة هو الإسلام، رغم أن الدولة ليس لها دين، والأرض والوطن لجميع المواطنات والمواطنين وليس فقط للذكور المسلمين.

هل تحتاج الحكومات المصرية دائما لغطاء دينى يحميها من الشعب؟ العريق فى حضارته النابعة من العقل والعدل للحكيمات معات وإزيس وسخمت؟ وقد نجح هذا الشعب فى التخلص من الاستبداد السياسى والدينى معا، فهل تسعى الدولة الآن لإجهاض ثورته عن طريق الحزب السلفى؟

وكيف تتراجع الدولة عن قراراتها وتسمح لهذا الحزب بالصعود الى منابرها وإطلاق أفكاره المعادية للعقل وللنساء والأقباط؟

كيف توافق الدولة وأحزابها ونخبها ومجتمعها المدني، على دخول هذا الحزب السلفى (غير الدستوري) الى البرلمان الجديد، بنسائه المبتورات الوجوه المقطوعات الرءوس؟ وما الفرق بين أفكار هذا الحزب والتنظيم الداعشي؟ تقول مانشتات الصحف، فى أول مارس 2015، إن تنظيم داعش فرض ارتداء النقاب على النساء فى المناطق الخاضعة لسيطرته داخل ليبيا، كما حرموا سير النساء دون محرم، وإلا كانت عقوبتهن الجلد؟

Taliban_beating_woman_in_public_RAWA


متطرف تحت المجهر

 

بقلم المفكر الدكتور ذكى نجيب محمود

 
download
لاأذكر من هو الشاعر ولا من هو الخليفة أو الأمير الذى قال الشاعر شعره بين يديه لكننى أذكر بيتى الشعر اللذان تبادلهما الشاعر والأمير فوضع كل منهما وجهة نظره فى بيت الشعر الذى ارتجله من وحى الموقف فيبدو ان الأمير ( اولعله كان الخليفة المنصور ) كان متسرعا يعجل الفعل قبل ان يتدبره فى روية واناة فوجه اليه الشاعر النصح فى بيت من الشعر اجراه على منوال البيت الذى قاله الشاعر الا انه اخذ فيه بوجهة نظر مضادة اذ قال ان صاحب الرأى ليس فى حاجة الى التدبر بقدر ماهو بحاجة الى العزيمة اذ ليس مايفسد الرأى هو الاسرع به نحو التنفيذ وانما يفسده ان يتردد صاحبه فى تنفيذه وهاذان هما البيتان :

قال الشاعر : اذا كنت ذا رأى فكن ذا تدبر

فأن فساد الرأى ان تتعجلا

فأجاب الامير :اذا كنت ذا رأى ، فكن ذا عزيمة

فأن فساد الرأى ان تترددا

واذكر انى فى ساعة من ساعات الفراغ اخذت الهو فى هذين الموقفين من الحياة فأيهما ياترى اقرب الى الصواب ؟ وهما موقفان كثيرا جدا ما نراهما يقسمان الناس صنفين صنفا يتروى قبل التنفيذ وصنفا اّخر لاتكاد فكرة تطوف بخاطره حتى يسرع الى تنفيذها والاغلب أن يكون الاول ممن انضجته خبر السنين وعرف ان الرأى المعين فى الموقف المعين كثيراً جداً ماتقابله وجهات نظر اخرى تستحق الالتفات اليها والموازنة بينها قبل الانتهاء الى قرارأخير، والاغلب ان يكون الصنف الأول ممن انضجته خبرة السنين وعرف أ ن الرأى المعين فى الموقف المعين كثيراً جداً ما تقابله وجهات نظر اخرى تستحق الألتفات اليها ، والموازنة بينها قبل الانتهاء الى قرار اخير ، والاغلب أن يكون الصنف الثانى ممن لايزال محكوما بانفعالاته وعواطفه من الشباب او من هم فى حكم الشباب فليست العبرة هنا بعدد السنين وانما العبرة بغزارة الخبرة المحصلة او ضحالتها … وبعد مراجعات اقارن فيها بين الموقفين واوازن مع الذهن بحل يجمع بين وجهتى النظر فى موقف واحد ، فليس الصواب هو أن نجعل الأمر بديلين علينا ان نختار احداهما وأن نترك الاخرى فأما أن نتدبر الرأى ونتروى قبل العمل واما أن نعزم عزيمتنا مسرعين الى العمل بلا تردد بين جانب الخطأ منه وجانب الصواب فحقيقة الامر – كما بدا لى – هى أن الطريق الى العمل ذو مرحلتين : اولاهما مرحلة للتدبر …وثانيتهما مرحلة للعزيمة… التى تهم بالفعل بناء على ماوصلت اليه المرحلة الاولى  … فأذا رأينا الناس وكأنهم منقسمون صنفين فى هذا الصدد فما ذلك الا أن صنفا منهم يقف عند المرحلة الاولى وحدها وكأن امعان التدبر قد اصابه بالشلل …واما الصنف الثانى فهو الذى يتجاهل المرحلة الاولى ويجعل نقطة البدء والانطلاق معا فى المرحلة الثانية وكلا الرجلين نصف انسان

ولأمر ما تواردت فى رأسى عند تلك اللمعة الذهنية ذكريات لاحصر لها لمواقف كثر فيها اللغو بيننا … فى التفرقة بين مانطلق عليه اسم  ( الكليات النظرية ) و( الكليات العملية) وهو تقسيم لايجرى بدقة مجرى التقسيم الذى باعد المسافة بين الشاعر و الأمير الا انه رغم ذلك يمت اليه بسبب لأن  شيئا شبيها بما قلناه عن وجوب الجمع بين تدبر الرأى وعزيمة تنفيذه ليكونا مرحلتين لابد ان يتكاملا معا فى الانسان الواحد نقوله كذلك فيما هو( نظرى ) وماهو ( عملى )من ضروب العلم فكل ( علم) عرفته الدنيا من اول التاريخ الذى عرف  فيه الانسان كيف يفكر على نهج العلم هو ( نظرى ) اولا و( عملى ) ثانيا اذا قسم ( للنظرية ) ان تجد من ينقلها الى مجال التطبيق والا فكيف يكون ؟

ايبدأ الانسان بالخبط هنا والتخبط هناك  بغير ( فكرة ) فى فكره ؟

ام انه يبلور خبراته المتفرقة فى  (فكرة ) يقتنع بصوابها ثم يهم بتنفيذها فأما طاوعه الواقع على فكرته فتكون فكرته صحيحة ، واما استعصى الواقع على فكرته فتكون فكرته خاطئة ؟

ولعل ما اضلنا عند القسمة الى  (نظرى ) و (عملى ) فى كليات الجامعة هو خلط فكرى افدح  : اذا حسبنا دراسة العلوم الانسانية  ادخل فى باب النظرى غافلين عن ان النظرى هو مايستند الى النظرية  والنظريات بهذا المعنى تعرفها العلوم الطبيعية اكثر مما تعرفها العلوم الانسانية – لسبب – واضح هو انها قرينة الدقة عندما تعلو درجاتها  … اذا شئت  فراجع  ماشئت من بلاد الدنيا لترى كيف تقسم فيها انواع  الدراسات  ولن تجد فيما اعتقد احداً سوانا نقل صفة  ( النظرى) من موصوفها الحقيقى وهو العلوم الطبيعية الى غير موضوعها الاساسى المباشر وهى العلوم الأنسانية فهذه علوم مختلف علي منهجها حتى اليوم  : هل يكون هو نفسه منهج البحث فى العلوم الطبيعية او يكون لها منهج خاص ؟

وذلك لأن  (النظرية ) فى اى علم اذا ما وجدت سبيلها الى دقة الصياغة  – وغالبا ماتكون الصياغة الدقيقة فى صورة  رياضية كان ذلك دليلا على ان ذلك العلم قد بلغ مرحلة متقدمة من الدقة والقدرة على التنبؤ الصحيح فى مجاله .

ثم انعرجت بى الخواطر نحو الكليات الجامعية وأسمائها فرأيت كم تعجل اولئك الذين اطلقوا تلك الاسماء على غير مسمياتها  فالتى اطلقوا عليها  اسم  ( كلية الآداب ) لاتدرس ادبا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة ولا كان مقصودا بها ان تفعل … وانما هى تدرس علوماً أجتماعية  او علوما انسانية  فلماذا لم يسموها بأسمها  : و( كلية التجارة  ) لاتدرس تجارة بل تدرس محاسبة وادارة  فلماذا لم يسموها بأسمها  وكلية  ( الحقوق ) تدرس القانون  فلماذا لاتسمى كلية القانون  كما هى الحال فى سائر بلاد الدنيا ؟

ولكننى سرعان ما اوقفت هذه الخواطر متهكماً قائلا لنفسى  : هذه الاسماء كلها وان اطلقها من اطلقها على غير مسمياتها فهى حتى وان اختلف الناس حول معانيها  فلن يؤدى بهم ذلك الاختلاف الى قتال تسفك فيه الدماء وماذا انت  قائل فى مجموعات اخرى من الاسماء  يفهمها الناس على اوجه مختلفة  ثم ينتهى بهم انقسامهم فى الفهم الى عراك ينشب بينهم  بالكلمات اول الامر ثم يتحول العراك الى ساحات  الحرب ونيران المدافع  … فأسم ( الديمقراطية ) يطلقه فريق  على نظام تتعدد فيه الاحزاب  لتعدد وجهات النظر ويطلقه قوم اّخرون  على نظام الحزب الواحد لواحدية الرأى

الذى لايجوز له عندهم ان يتعدد فاذا قال الاولون هذه هى الديمقراطية  رد الآخرون بقولهم بل الديمقراطية  هى هذه  وعلى العارفين والمنجمين وقراء الكف  والفنجان ان يكشفوا للناس وجه الحق بين الفريقين قبل ان ينتقلا بالخلاف  الى لغة الحديد والنار  وكل انسان على كوكب الارض  يرفع لواء  ( الحرية)  وهل شهد التاريخ كله حاكما واحدا يعلن عن نفسه انه يحكم لغير الحرية ؟

انه يقتل من اجل الحرية … ويزج فى السجون من اجل الحرية …لكن تعال  فأنظر اليهم  كيف يفهمونها على معان تختلف باختلاف  العصور وباختلاف الشعوب فى العصر الواحد  … تجد عجبا

اننا هنا  لانريد ان نسىء الظن بأحد فكل يحب وطنه واهله الى حد العشق والهيام  ولكن العلة هى فى فهم الناس  للكلمات فواحد يقول ان الحرية اساسا هى حرية الفرد … وهى نفسها الحرية التى جاءت رسالات السماء لتقررها لكل  فرد حيث  يكون مسئولا حقا عما قدمت يداه وهو بين يدى الله يوم النشور… ولكن قوما اّخرين  يتعجبون  اذ هم  لايرون كيف تكون حرية  الا  لكتلة الشعب معجونة كلها عجينة واحدة ؟

ان الحرية عند الاولين هى اّخر الامر ان يعبر المواطن عن نفسه فكرا وعقيدة وسلوكا ولاتقيده فى ذلك الا ضوابط تستهدف فى نهاية المطاف ان يتاح للانسان الحر ان ينعم بذلك التعبير عن ذات نفسه… واما الآخرون فلا يخجلهم ان يقولوها صريحة وهى ان الحرية فى اخر التحليل – هى ان يأمن كل مواطن على رغيف الخبز …

وجاءت معى تلك المقارنات استطرادا طبيعيا فى تلك الجلسة الهادئة التى بدأتها بموقف المناظرة الشعرية التى دارت بين الشاعر والامير  ( ولعله الخليفة ) حول ان يكون صاحب الراى ذا تدبير او ان يكون ذا عزيمة ثم اخذ تعاقب المعانى ينتقل بى من موضوع الى موضوع وكان الرابط بين مختلف الموضوعات التى طرقتها هو اختلاف الناس فى فهم الكلمات  التى يستخدمونها ثم ماهم الا ان ينقلهم الوهم الى الاعتقاد بأنهم انما يختلفون على حقائق الواقع وحقائق الواقع هى هى لكن كلا منهم يريد ان يأخذ جانبا منها دون جانب ويظن مع ذلك انه اخذها جميعا واستوعبها من شتى اطرافها ولبثت خواطرى تلك تنساب بى منى من مجال للحديث الى مجال انسيابا طليقا لايقيده هدف محدد ابتغى الوصول اليه …لكن الله العليم الخبير شاء لى ان يتحول معى ذلك الانسياب الحر الى موقف جاد وحاد وكان ذلك عندما طرق على الباب زائر عاد لتوه من سفر ولا اعرف ماذا كانت مناسبة الحديث التى اصهرت فيها فكرة التطرف الدينى وقد يكون زائرى نفسه هو الذى افتعل ظهورها افتعالا ليقول لى فى شئ من الرعشة العصبية المكشوفة  : لست افهم كلمة التطرف يوصف بها متدين فالمتدين الحق متمسك بدينه لازيادة ولا نقصان …انه انسان يلتزم الخط الدينى وخط الدين خط واحد …والامر بعد ذلك يكون فى افراد الناس هو اما سائر على هذا الخط واما منحرف عنه فأين يكون فى هذه الصورة الواضحة من هو معتدل ومن هو منحرف …

قلت لزائرى قد فاتتك تفرقة مهمة بين طرفين هما ( الدين ) كما هو مثبت فى كتابه المنزل  من جهة و( المتدين ) بذلك الدين من جهة اخرى فبينما الكتاب  (واحد ) فأن المتدنيين به كثيرون … وليس هو من الامور الشاذة فى طبيعة الناس  ان يختلفوا فى طريقة فهمهم  لنص واحد قرأوه وهذا هو ماحدث بالفعل للمسلمين ( كما حدث مثله فى اتباع الديانات الاخرى جميعا ) فالمسلمون متفقون

على الكتاب الكريم  لكنهم مختلفون فى فهمهم لبعض اياته ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة ومن ثم يكون معنى التطرف ياصاحبى هو ان ياخذ المسلم بطريقة معينة فى الفهم او قل بمذهب معين ثم يعلن انه هو وحده الصحيح وقد اخطا الآخرون ولو وقف امره عند هذا الحد لما كان عليه غبار لان المعنى ان ياخذ الانسان بمذهب معين دون سائر المذاهب هو انه رأى الصواب فى جانب المذهب الذى اختاره … لكنه ينقلب  ( متطرفا ) اذا هو اراد ان يحمل الآخرين  بالقوة – كائنة ماكانت صورة القوة –على مشاركته فيما اعتقد .

بدئت حديثى مع الزائر هادىء النبرة  ثم شعرت فى داخلى بالحرارة  تزداد معى شيئا فشيئا  كأنما احسست بأن موضوع التطرف  فى حياتنا اكثر اهمية  واشد خطورة  من ان يؤخذ بهذا الهدوء  فقلت لزائرى – وكان قد هم بالرد على شئ مما قلته  – اسمع يااخى  اننى بحكم فارق السن بينى وبينك – على الاقل- استأذنك فى مواصلة  حديثى لافتح عينيك على  حقيقة المتطرف فى مجال الدين او فى اى جال غير الدين .

اولا – ليس مايؤخذ على المتطرف انه قد اختار لنفسه وجهة نظر يرى الافكار والمواقف من خلالها … لا …فهذه – على العكس – علامة نضج  وكذلك ليس مايؤخذ عليه  انه يحاول اقناع الآخرين بمشاركته فى وجهة نظره لان تلك المحاولة منه انما هى علامة ايمان بصدق ما رأى  لكن الذى يؤخذ عليه حقا هو ارهابه للآخرين  لارغامهم على قبول ما يدعو اليه هو وزمرته … ففى ذلك الارهاب جوهر التطرف  … ولأضرب لك مثلا على ذلك من التاريخ فأنه لما نشبت الحرب بين الامام على – كرم الله وجهه- وبين معاوية على الحق فى امارة المؤمنين لمن تكون  …كان الموقف يتضمن رأيين فى احقية الخلافة اولهما ان آل النبى ( عليه الصلاة والسلام ) احق من غيرهم بها وفى هذه  الحالة تكون الاحقية لعلى – فضلا عن ان عليا قد بويع بالفعل …والرأى الثانى هو احقية الخلافة جائزة لكل ذى اصل عربى  سواء أكان من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ام لم يكن وفى هذه الحالة لم يكن ثمة مايمنع ان ينولها معاوية اذا توافرت له البيعة فلما ثارت فى قلب المعركة مسألة الاحتكام الى الكتاب الكريم فى فض الخلاف بين الفريقين المتحاربين تطورت الاحداث تطورا سريعا ادى الى ان يخرج بعض انصار الامام على – كرم الله وجهه- خروجهم عليه اعتقادا منهم بأنه لم يكن حاسم الرأى فى مسألة الاحتكام الى الكتاب واطلق على هؤلاء المعارضين اسم ( الخوارج) … ولم يلبث هؤلاء الخوارج ان كونوا لأنفسهم وجهة نظر شاملة  كان منها رأى فى احقية الخلافة فلاهم سلموا بأولوية آل البيت فى ذلك الحق دون سواهم ولاهم وافقوا على ان يقصر ذلك الحق على ماكان ذا اصل عربى من بين المسلمين الاكفاء للخلافة وخرجوا برأى ثالث هو ان كل مسلم له حق الحكم مادام ذا قدرة معترف بها دون ان يكون بالضرورة من اصل عربى او ان يكون بالتفصيل من ال البيت فاذا ضممنا هذا الرأى الى غيره من أرائهم  نظرنا اليها فى ذاتها فربما وجدنا وجهة نظر الخوارج خالية  مما يؤخذ عليهم فهى وجهة نظر لاتقل عن سواها  من وجهات النظر … اذن فلماذا نفرت منهم الامة الاسلامية ولاتزال تنفر من مجرد ذكرهم كانت العلة فى تطرفهم بالمعنى الذى اسلفته عن التطرف وهواللجوء الى القسوة العنيفة ارهابا لكل من وقعت عليه ايديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم وان لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وابشعها

ولابد ان نضيف هنا حقيقة عنهم لتكتمل الصورة امام القارئ  وهى انهم كانوا لاينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة ويديمون الصلاة حتى لقد كانوا يعرفون بما تتقرح به جباههم من السجود على حصباء الارض العارية فالخوارج – كما ترى – قد اغضبوا الامة الاسلامية على طول التاريخ الاسلامى كله  لا لمجرد ان لهم وجهة نظر اسلامية خاصة ولا لانهم قصروا فى عبادة الله  بل هم اغضبوها بتطرفهم …حين يكون معنى التطرف لجوء صاحبه الى الارهاب فلا هى الموعظة الحسنة وسيلتهم ولاهى الجدل بالحجة تقارع الحجة ولا هى الحكمة  وتلك الوسائل الثلاث المذكورة فى القرآن الكريم .

ثانيا – اذا كان اتخاذ الارهاب وسيلة لارغام الخصوم  هو العلامة الحاسمة التى تميز المتطرف عمن سواه  : كان محالا ان يلجأ اليه انسان قوى واثق بنفسه وبعقيدته وانما يلجأ اليه من به ضعف فى اى صورة من صوره …لماذا ؟…لان الانسان اذا احس فى نفسه ضعفا تملكه الخوف من ان يطغى عليه اصحاب المواقف الاخرى وكأى خائف ترى المتطرف هلعاً جزوعاً يسرع الى اقرب اداة للهتك بخصمه اذا استطاع قبل ان تتسع الفرصة امام ذلك الخصم وليس هذا النزوع العدوانى  مقصورا على المتطرف فى الدين بل هو نزوع نلحظه فى كل دروب التطرف الاخرى … فأذا احدثت  جماعة انقلابا فى بلدها تولت على اثره مقاليد الحكم فى ذلك البلد ، فأنها على الارجح لاتتريث قبل ان تنزل على من تتوخى فيم المعارضة كل ضروب التنكيل والتعذيب  تخلصا منهم اولا ، ليكونوا عبرة لغيرهم ثانيا .

ثالثا – لايتطرف بالمعنى الذى حددناه للتطرف  الا من ىحمل رأسا فارغا خاويا … اللهم الا اضغاثا دفع بها الى ذلك الرأس عن فهم او عن غير فهم  وذلك  لسببين يأتيان على التعاقب فى خطوتين : فمن جهة اولى  لاتكون الافكار التى شحن بها رأسه علمية بأى معنى من المعانى  اذ  الفكرة العلمية لاهى تتطلب ان يتعصب لها احد بالتطرف فيها ولا الاخذ بما يشعر فى نفسه بأى حافز يحفزه الى ذلك … لانها مادامت فكرة علمية فهى مقطوع بصوابها من ناحية وخالية من اىة شحنة انفعالية من ناحية اخرى …. وهنا ننتقل الى الخطوة الثانية وهى ان ما يمتلئ به رأس المتطرف مادام لايمت الى العلم بصلة فلابد – اذن- ان يكون فيه الخصائص المضادة لخصائص العلم ومنها حرارة الانفعال وغموض المعنى واحتمال ان  تتعدد فيها وجهات النظر فى فهمها وتأويلها واغتراف جانب من جوانبها مع اهمال الجوانب الاخرى .

وهذه الخصائص كلها لاغبار عليها اذا كان رأس حاويها فيه القدرة الناقدة  وموضوعية النظر بحيث اذا تقدم اليه ناقد بنقد شئ مما فى رأسه ، لم يقابله بالثورة الغاضبة وبالتهديد بالقتل او بالضرب …بل انصت الى نقده بعقل مفتوح  …ومادمنا قد حددنا معنى التمرد باقترانه بالارهاب الاهوج تحتم ان يكون رأس المتطرف قد خلا من الضوابط التى تمكنه من مخالفة الآخرين لوجهة نظره .

رابعا – لقد تساهلنا فيما اسلفناه حين جعلنا التطرف فى اى مجال وجهة نظر … لان من كانت له وجهة  للنظر ثبت عليها ورأى كل شئ من خلالها … لكن المتطرف فى حقيقته الدفينة ( حالة  ) من حالات التكوين النفسى  تجعل صاحبها معداً ان يتطرف وكفى  … فليس المهم  هو الموضوع الذى

يتطرف فيه بل المهم فى تكوينه هو ان يتطرف للتطرف فى حد ذاته … ومن هنا رأينا امثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة  من تطرف فى فكرة الى تطرف فى الفكرة التى تناقضها …فنراه اليوم – مثلا –  متطرفا فى رؤيى اسلامية معينة  ثم نراه غدا متطرفا  فى رؤية شيوعية …مع ان الاسلام والشيوعية ضدان لايلتقيان  .

ان المريض بالتطرف لايعرف  وهو بالتالى لايعترف بأنه مريض شأنه  فى ذلك شأن المرضى بسائر الامراض النفسية واذا كاشفت المتطرف الدينى مثلا بحقيقة حالته اجابك بانه يسير على الخط الدينى  …فماذا يعنى التطرف فيمن يتمسك بدينه ويلتزم اوامره ونواهيه ؟

قال زائرى : هذه اشارة الى ماقلته لك عن نفسى فى اول الحديث  نعم  اننى ملتزم خط الدين وفق ما تعلمت وما علمت بانه الدين الصحيح  فقل لى ماذا تريد ان افعل  ؟

قلت : لا اريد لك ان تغير من امر نفسك شىئا الا ان تتذكر كلما رأيت احدا يلتزم دينه  مع اختلاف فى التفصيلات  :الرؤية والفهم والتأويل بأنه هو الآخر يمارس دينه كما تعلم وعلم بأنه الدين الصحيح فأما تركته وشأنه وضميره واما دخلتما معا فى حوار هادئ منتج امين .