متطرف تحت المجهر
بقلم المفكر الدكتور ذكى نجيب محمود
لاأذكر من هو الشاعر ولا من هو الخليفة أو الأمير الذى قال الشاعر شعره بين يديه لكننى أذكر بيتى الشعر اللذان تبادلهما الشاعر والأمير فوضع كل منهما وجهة نظره فى بيت الشعر الذى ارتجله من وحى الموقف فيبدو ان الأمير ( اولعله كان الخليفة المنصور ) كان متسرعا يعجل الفعل قبل ان يتدبره فى روية واناة فوجه اليه الشاعر النصح فى بيت من الشعر اجراه على منوال البيت الذى قاله الشاعر الا انه اخذ فيه بوجهة نظر مضادة اذ قال ان صاحب الرأى ليس فى حاجة الى التدبر بقدر ماهو بحاجة الى العزيمة اذ ليس مايفسد الرأى هو الاسرع به نحو التنفيذ وانما يفسده ان يتردد صاحبه فى تنفيذه وهاذان هما البيتان :
قال الشاعر : اذا كنت ذا رأى فكن ذا تدبر
فأن فساد الرأى ان تتعجلا
فأجاب الامير :اذا كنت ذا رأى ، فكن ذا عزيمة
فأن فساد الرأى ان تترددا
واذكر انى فى ساعة من ساعات الفراغ اخذت الهو فى هذين الموقفين من الحياة فأيهما ياترى اقرب الى الصواب ؟ وهما موقفان كثيرا جدا ما نراهما يقسمان الناس صنفين صنفا يتروى قبل التنفيذ وصنفا اّخر لاتكاد فكرة تطوف بخاطره حتى يسرع الى تنفيذها والاغلب أن يكون الاول ممن انضجته خبر السنين وعرف ان الرأى المعين فى الموقف المعين كثيراً جداً ماتقابله وجهات نظر اخرى تستحق الالتفات اليها والموازنة بينها قبل الانتهاء الى قرارأخير، والاغلب ان يكون الصنف الأول ممن انضجته خبرة السنين وعرف أ ن الرأى المعين فى الموقف المعين كثيراً جداً ما تقابله وجهات نظر اخرى تستحق الألتفات اليها ، والموازنة بينها قبل الانتهاء الى قرار اخير ، والاغلب أن يكون الصنف الثانى ممن لايزال محكوما بانفعالاته وعواطفه من الشباب او من هم فى حكم الشباب فليست العبرة هنا بعدد السنين وانما العبرة بغزارة الخبرة المحصلة او ضحالتها … وبعد مراجعات اقارن فيها بين الموقفين واوازن مع الذهن بحل يجمع بين وجهتى النظر فى موقف واحد ، فليس الصواب هو أن نجعل الأمر بديلين علينا ان نختار احداهما وأن نترك الاخرى فأما أن نتدبر الرأى ونتروى قبل العمل واما أن نعزم عزيمتنا مسرعين الى العمل بلا تردد بين جانب الخطأ منه وجانب الصواب فحقيقة الامر – كما بدا لى – هى أن الطريق الى العمل ذو مرحلتين : اولاهما مرحلة للتدبر …وثانيتهما مرحلة للعزيمة… التى تهم بالفعل بناء على ماوصلت اليه المرحلة الاولى … فأذا رأينا الناس وكأنهم منقسمون صنفين فى هذا الصدد فما ذلك الا أن صنفا منهم يقف عند المرحلة الاولى وحدها وكأن امعان التدبر قد اصابه بالشلل …واما الصنف الثانى فهو الذى يتجاهل المرحلة الاولى ويجعل نقطة البدء والانطلاق معا فى المرحلة الثانية وكلا الرجلين نصف انسان
ولأمر ما تواردت فى رأسى عند تلك اللمعة الذهنية ذكريات لاحصر لها لمواقف كثر فيها اللغو بيننا … فى التفرقة بين مانطلق عليه اسم ( الكليات النظرية ) و( الكليات العملية) وهو تقسيم لايجرى بدقة مجرى التقسيم الذى باعد المسافة بين الشاعر و الأمير الا انه رغم ذلك يمت اليه بسبب لأن شيئا شبيها بما قلناه عن وجوب الجمع بين تدبر الرأى وعزيمة تنفيذه ليكونا مرحلتين لابد ان يتكاملا معا فى الانسان الواحد نقوله كذلك فيما هو( نظرى ) وماهو ( عملى )من ضروب العلم فكل ( علم) عرفته الدنيا من اول التاريخ الذى عرف فيه الانسان كيف يفكر على نهج العلم هو ( نظرى ) اولا و( عملى ) ثانيا اذا قسم ( للنظرية ) ان تجد من ينقلها الى مجال التطبيق والا فكيف يكون ؟
ايبدأ الانسان بالخبط هنا والتخبط هناك بغير ( فكرة ) فى فكره ؟
ام انه يبلور خبراته المتفرقة فى (فكرة ) يقتنع بصوابها ثم يهم بتنفيذها فأما طاوعه الواقع على فكرته فتكون فكرته صحيحة ، واما استعصى الواقع على فكرته فتكون فكرته خاطئة ؟
ولعل ما اضلنا عند القسمة الى (نظرى ) و (عملى ) فى كليات الجامعة هو خلط فكرى افدح : اذا حسبنا دراسة العلوم الانسانية ادخل فى باب النظرى غافلين عن ان النظرى هو مايستند الى النظرية والنظريات بهذا المعنى تعرفها العلوم الطبيعية اكثر مما تعرفها العلوم الانسانية – لسبب – واضح هو انها قرينة الدقة عندما تعلو درجاتها … اذا شئت فراجع ماشئت من بلاد الدنيا لترى كيف تقسم فيها انواع الدراسات ولن تجد فيما اعتقد احداً سوانا نقل صفة ( النظرى) من موصوفها الحقيقى وهو العلوم الطبيعية الى غير موضوعها الاساسى المباشر وهى العلوم الأنسانية فهذه علوم مختلف علي منهجها حتى اليوم : هل يكون هو نفسه منهج البحث فى العلوم الطبيعية او يكون لها منهج خاص ؟
وذلك لأن (النظرية ) فى اى علم اذا ما وجدت سبيلها الى دقة الصياغة – وغالبا ماتكون الصياغة الدقيقة فى صورة رياضية كان ذلك دليلا على ان ذلك العلم قد بلغ مرحلة متقدمة من الدقة والقدرة على التنبؤ الصحيح فى مجاله .
ثم انعرجت بى الخواطر نحو الكليات الجامعية وأسمائها فرأيت كم تعجل اولئك الذين اطلقوا تلك الاسماء على غير مسمياتها فالتى اطلقوا عليها اسم ( كلية الآداب ) لاتدرس ادبا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة ولا كان مقصودا بها ان تفعل … وانما هى تدرس علوماً أجتماعية او علوما انسانية فلماذا لم يسموها بأسمها : و( كلية التجارة ) لاتدرس تجارة بل تدرس محاسبة وادارة فلماذا لم يسموها بأسمها وكلية ( الحقوق ) تدرس القانون فلماذا لاتسمى كلية القانون كما هى الحال فى سائر بلاد الدنيا ؟
ولكننى سرعان ما اوقفت هذه الخواطر متهكماً قائلا لنفسى : هذه الاسماء كلها وان اطلقها من اطلقها على غير مسمياتها فهى حتى وان اختلف الناس حول معانيها فلن يؤدى بهم ذلك الاختلاف الى قتال تسفك فيه الدماء وماذا انت قائل فى مجموعات اخرى من الاسماء يفهمها الناس على اوجه مختلفة ثم ينتهى بهم انقسامهم فى الفهم الى عراك ينشب بينهم بالكلمات اول الامر ثم يتحول العراك الى ساحات الحرب ونيران المدافع … فأسم ( الديمقراطية ) يطلقه فريق على نظام تتعدد فيه الاحزاب لتعدد وجهات النظر ويطلقه قوم اّخرون على نظام الحزب الواحد لواحدية الرأى
الذى لايجوز له عندهم ان يتعدد فاذا قال الاولون هذه هى الديمقراطية رد الآخرون بقولهم بل الديمقراطية هى هذه وعلى العارفين والمنجمين وقراء الكف والفنجان ان يكشفوا للناس وجه الحق بين الفريقين قبل ان ينتقلا بالخلاف الى لغة الحديد والنار وكل انسان على كوكب الارض يرفع لواء ( الحرية) وهل شهد التاريخ كله حاكما واحدا يعلن عن نفسه انه يحكم لغير الحرية ؟
انه يقتل من اجل الحرية … ويزج فى السجون من اجل الحرية …لكن تعال فأنظر اليهم كيف يفهمونها على معان تختلف باختلاف العصور وباختلاف الشعوب فى العصر الواحد … تجد عجبا
اننا هنا لانريد ان نسىء الظن بأحد فكل يحب وطنه واهله الى حد العشق والهيام ولكن العلة هى فى فهم الناس للكلمات فواحد يقول ان الحرية اساسا هى حرية الفرد … وهى نفسها الحرية التى جاءت رسالات السماء لتقررها لكل فرد حيث يكون مسئولا حقا عما قدمت يداه وهو بين يدى الله يوم النشور… ولكن قوما اّخرين يتعجبون اذ هم لايرون كيف تكون حرية الا لكتلة الشعب معجونة كلها عجينة واحدة ؟
ان الحرية عند الاولين هى اّخر الامر ان يعبر المواطن عن نفسه فكرا وعقيدة وسلوكا ولاتقيده فى ذلك الا ضوابط تستهدف فى نهاية المطاف ان يتاح للانسان الحر ان ينعم بذلك التعبير عن ذات نفسه… واما الآخرون فلا يخجلهم ان يقولوها صريحة وهى ان الحرية فى اخر التحليل – هى ان يأمن كل مواطن على رغيف الخبز …
وجاءت معى تلك المقارنات استطرادا طبيعيا فى تلك الجلسة الهادئة التى بدأتها بموقف المناظرة الشعرية التى دارت بين الشاعر والامير ( ولعله الخليفة ) حول ان يكون صاحب الراى ذا تدبير او ان يكون ذا عزيمة ثم اخذ تعاقب المعانى ينتقل بى من موضوع الى موضوع وكان الرابط بين مختلف الموضوعات التى طرقتها هو اختلاف الناس فى فهم الكلمات التى يستخدمونها ثم ماهم الا ان ينقلهم الوهم الى الاعتقاد بأنهم انما يختلفون على حقائق الواقع وحقائق الواقع هى هى لكن كلا منهم يريد ان يأخذ جانبا منها دون جانب ويظن مع ذلك انه اخذها جميعا واستوعبها من شتى اطرافها ولبثت خواطرى تلك تنساب بى منى من مجال للحديث الى مجال انسيابا طليقا لايقيده هدف محدد ابتغى الوصول اليه …لكن الله العليم الخبير شاء لى ان يتحول معى ذلك الانسياب الحر الى موقف جاد وحاد وكان ذلك عندما طرق على الباب زائر عاد لتوه من سفر ولا اعرف ماذا كانت مناسبة الحديث التى اصهرت فيها فكرة التطرف الدينى وقد يكون زائرى نفسه هو الذى افتعل ظهورها افتعالا ليقول لى فى شئ من الرعشة العصبية المكشوفة : لست افهم كلمة التطرف يوصف بها متدين فالمتدين الحق متمسك بدينه لازيادة ولا نقصان …انه انسان يلتزم الخط الدينى وخط الدين خط واحد …والامر بعد ذلك يكون فى افراد الناس هو اما سائر على هذا الخط واما منحرف عنه فأين يكون فى هذه الصورة الواضحة من هو معتدل ومن هو منحرف …
قلت لزائرى قد فاتتك تفرقة مهمة بين طرفين هما ( الدين ) كما هو مثبت فى كتابه المنزل من جهة و( المتدين ) بذلك الدين من جهة اخرى فبينما الكتاب (واحد ) فأن المتدنيين به كثيرون … وليس هو من الامور الشاذة فى طبيعة الناس ان يختلفوا فى طريقة فهمهم لنص واحد قرأوه وهذا هو ماحدث بالفعل للمسلمين ( كما حدث مثله فى اتباع الديانات الاخرى جميعا ) فالمسلمون متفقون
على الكتاب الكريم لكنهم مختلفون فى فهمهم لبعض اياته ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة ومن ثم يكون معنى التطرف ياصاحبى هو ان ياخذ المسلم بطريقة معينة فى الفهم او قل بمذهب معين ثم يعلن انه هو وحده الصحيح وقد اخطا الآخرون ولو وقف امره عند هذا الحد لما كان عليه غبار لان المعنى ان ياخذ الانسان بمذهب معين دون سائر المذاهب هو انه رأى الصواب فى جانب المذهب الذى اختاره … لكنه ينقلب ( متطرفا ) اذا هو اراد ان يحمل الآخرين بالقوة – كائنة ماكانت صورة القوة –على مشاركته فيما اعتقد .
بدئت حديثى مع الزائر هادىء النبرة ثم شعرت فى داخلى بالحرارة تزداد معى شيئا فشيئا كأنما احسست بأن موضوع التطرف فى حياتنا اكثر اهمية واشد خطورة من ان يؤخذ بهذا الهدوء فقلت لزائرى – وكان قد هم بالرد على شئ مما قلته – اسمع يااخى اننى بحكم فارق السن بينى وبينك – على الاقل- استأذنك فى مواصلة حديثى لافتح عينيك على حقيقة المتطرف فى مجال الدين او فى اى جال غير الدين .
اولا – ليس مايؤخذ على المتطرف انه قد اختار لنفسه وجهة نظر يرى الافكار والمواقف من خلالها … لا …فهذه – على العكس – علامة نضج وكذلك ليس مايؤخذ عليه انه يحاول اقناع الآخرين بمشاركته فى وجهة نظره لان تلك المحاولة منه انما هى علامة ايمان بصدق ما رأى لكن الذى يؤخذ عليه حقا هو ارهابه للآخرين لارغامهم على قبول ما يدعو اليه هو وزمرته … ففى ذلك الارهاب جوهر التطرف … ولأضرب لك مثلا على ذلك من التاريخ فأنه لما نشبت الحرب بين الامام على – كرم الله وجهه- وبين معاوية على الحق فى امارة المؤمنين لمن تكون …كان الموقف يتضمن رأيين فى احقية الخلافة اولهما ان آل النبى ( عليه الصلاة والسلام ) احق من غيرهم بها وفى هذه الحالة تكون الاحقية لعلى – فضلا عن ان عليا قد بويع بالفعل …والرأى الثانى هو احقية الخلافة جائزة لكل ذى اصل عربى سواء أكان من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ام لم يكن وفى هذه الحالة لم يكن ثمة مايمنع ان ينولها معاوية اذا توافرت له البيعة فلما ثارت فى قلب المعركة مسألة الاحتكام الى الكتاب الكريم فى فض الخلاف بين الفريقين المتحاربين تطورت الاحداث تطورا سريعا ادى الى ان يخرج بعض انصار الامام على – كرم الله وجهه- خروجهم عليه اعتقادا منهم بأنه لم يكن حاسم الرأى فى مسألة الاحتكام الى الكتاب واطلق على هؤلاء المعارضين اسم ( الخوارج) … ولم يلبث هؤلاء الخوارج ان كونوا لأنفسهم وجهة نظر شاملة كان منها رأى فى احقية الخلافة فلاهم سلموا بأولوية آل البيت فى ذلك الحق دون سواهم ولاهم وافقوا على ان يقصر ذلك الحق على ماكان ذا اصل عربى من بين المسلمين الاكفاء للخلافة وخرجوا برأى ثالث هو ان كل مسلم له حق الحكم مادام ذا قدرة معترف بها دون ان يكون بالضرورة من اصل عربى او ان يكون بالتفصيل من ال البيت فاذا ضممنا هذا الرأى الى غيره من أرائهم نظرنا اليها فى ذاتها فربما وجدنا وجهة نظر الخوارج خالية مما يؤخذ عليهم فهى وجهة نظر لاتقل عن سواها من وجهات النظر … اذن فلماذا نفرت منهم الامة الاسلامية ولاتزال تنفر من مجرد ذكرهم كانت العلة فى تطرفهم بالمعنى الذى اسلفته عن التطرف وهواللجوء الى القسوة العنيفة ارهابا لكل من وقعت عليه ايديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم وان لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وابشعها
ولابد ان نضيف هنا حقيقة عنهم لتكتمل الصورة امام القارئ وهى انهم كانوا لاينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة ويديمون الصلاة حتى لقد كانوا يعرفون بما تتقرح به جباههم من السجود على حصباء الارض العارية فالخوارج – كما ترى – قد اغضبوا الامة الاسلامية على طول التاريخ الاسلامى كله لا لمجرد ان لهم وجهة نظر اسلامية خاصة ولا لانهم قصروا فى عبادة الله بل هم اغضبوها بتطرفهم …حين يكون معنى التطرف لجوء صاحبه الى الارهاب فلا هى الموعظة الحسنة وسيلتهم ولاهى الجدل بالحجة تقارع الحجة ولا هى الحكمة وتلك الوسائل الثلاث المذكورة فى القرآن الكريم .
ثانيا – اذا كان اتخاذ الارهاب وسيلة لارغام الخصوم هو العلامة الحاسمة التى تميز المتطرف عمن سواه : كان محالا ان يلجأ اليه انسان قوى واثق بنفسه وبعقيدته وانما يلجأ اليه من به ضعف فى اى صورة من صوره …لماذا ؟…لان الانسان اذا احس فى نفسه ضعفا تملكه الخوف من ان يطغى عليه اصحاب المواقف الاخرى وكأى خائف ترى المتطرف هلعاً جزوعاً يسرع الى اقرب اداة للهتك بخصمه اذا استطاع قبل ان تتسع الفرصة امام ذلك الخصم وليس هذا النزوع العدوانى مقصورا على المتطرف فى الدين بل هو نزوع نلحظه فى كل دروب التطرف الاخرى … فأذا احدثت جماعة انقلابا فى بلدها تولت على اثره مقاليد الحكم فى ذلك البلد ، فأنها على الارجح لاتتريث قبل ان تنزل على من تتوخى فيم المعارضة كل ضروب التنكيل والتعذيب تخلصا منهم اولا ، ليكونوا عبرة لغيرهم ثانيا .
ثالثا – لايتطرف بالمعنى الذى حددناه للتطرف الا من ىحمل رأسا فارغا خاويا … اللهم الا اضغاثا دفع بها الى ذلك الرأس عن فهم او عن غير فهم وذلك لسببين يأتيان على التعاقب فى خطوتين : فمن جهة اولى لاتكون الافكار التى شحن بها رأسه علمية بأى معنى من المعانى اذ الفكرة العلمية لاهى تتطلب ان يتعصب لها احد بالتطرف فيها ولا الاخذ بما يشعر فى نفسه بأى حافز يحفزه الى ذلك … لانها مادامت فكرة علمية فهى مقطوع بصوابها من ناحية وخالية من اىة شحنة انفعالية من ناحية اخرى …. وهنا ننتقل الى الخطوة الثانية وهى ان ما يمتلئ به رأس المتطرف مادام لايمت الى العلم بصلة فلابد – اذن- ان يكون فيه الخصائص المضادة لخصائص العلم ومنها حرارة الانفعال وغموض المعنى واحتمال ان تتعدد فيها وجهات النظر فى فهمها وتأويلها واغتراف جانب من جوانبها مع اهمال الجوانب الاخرى .
وهذه الخصائص كلها لاغبار عليها اذا كان رأس حاويها فيه القدرة الناقدة وموضوعية النظر بحيث اذا تقدم اليه ناقد بنقد شئ مما فى رأسه ، لم يقابله بالثورة الغاضبة وبالتهديد بالقتل او بالضرب …بل انصت الى نقده بعقل مفتوح …ومادمنا قد حددنا معنى التمرد باقترانه بالارهاب الاهوج تحتم ان يكون رأس المتطرف قد خلا من الضوابط التى تمكنه من مخالفة الآخرين لوجهة نظره .
رابعا – لقد تساهلنا فيما اسلفناه حين جعلنا التطرف فى اى مجال وجهة نظر … لان من كانت له وجهة للنظر ثبت عليها ورأى كل شئ من خلالها … لكن المتطرف فى حقيقته الدفينة ( حالة ) من حالات التكوين النفسى تجعل صاحبها معداً ان يتطرف وكفى … فليس المهم هو الموضوع الذى
يتطرف فيه بل المهم فى تكوينه هو ان يتطرف للتطرف فى حد ذاته … ومن هنا رأينا امثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة من تطرف فى فكرة الى تطرف فى الفكرة التى تناقضها …فنراه اليوم – مثلا – متطرفا فى رؤيى اسلامية معينة ثم نراه غدا متطرفا فى رؤية شيوعية …مع ان الاسلام والشيوعية ضدان لايلتقيان .
ان المريض بالتطرف لايعرف وهو بالتالى لايعترف بأنه مريض شأنه فى ذلك شأن المرضى بسائر الامراض النفسية واذا كاشفت المتطرف الدينى مثلا بحقيقة حالته اجابك بانه يسير على الخط الدينى …فماذا يعنى التطرف فيمن يتمسك بدينه ويلتزم اوامره ونواهيه ؟
قال زائرى : هذه اشارة الى ماقلته لك عن نفسى فى اول الحديث نعم اننى ملتزم خط الدين وفق ما تعلمت وما علمت بانه الدين الصحيح فقل لى ماذا تريد ان افعل ؟
قلت : لا اريد لك ان تغير من امر نفسك شىئا الا ان تتذكر كلما رأيت احدا يلتزم دينه مع اختلاف فى التفصيلات :الرؤية والفهم والتأويل بأنه هو الآخر يمارس دينه كما تعلم وعلم بأنه الدين الصحيح فأما تركته وشأنه وضميره واما دخلتما معا فى حوار هادئ منتج امين .