Category: مقالات فى موضوعات عامة



صور كاميرا الموبايل 999 اننى لااتقدم هنا بفكرة نظرية من تلك الافكار التى هى اقرب الى الرياضة الذهنية منها الى المشكلات العملية … بل اتقدم بفكرة تعاودنى كلما عاودتنى مسألة تحيرت فى حلها حلا حاسما يزيل القلق من نفسى ازاءها …وهى مسألة ضاربة فى حياتنا عند جذورها …وماذا تقول فى مسألة تدير سؤالها حول الذات المصرية فى صميمها ؟ 

انه لايكفينا ان تفض مشكلة كهذه لها مالها من عمق النأثير فى وجدان المصرى …بعبارة عجلى نلقى بها لنستريح والا فما كان اهون ان نقول عن المصرى – وهو قول اكرره مرارا لنفسى عن نفسى-   اقول ما اهون من ان نقول عن المصرى انه  يمتد بماضيه الى العصر الفرعونى …ثم هو عربى…وهو بمصريته تلك وعروبته هذه جذء من الامة الاسلامية … هذا قول سهل ومريح… وهو فوق ذلك قول نؤمن به او على الاقل يؤمن به كاتب هذه السطور … اذ هو مقتنع من عمق قلبه وفؤاده انه مصرى عربى مسلم ثم لايهمه بعد ذلك ان تضاف الى هذه الابعاد ابعاد اخرى كالانتماء الافريقى مثلا …نعم هذا قول سهل مريح ولكن ماذا لو حللنا هذه الصفات الثلاث : المصرية والعربية والاسلامية فوجدنا بعض العسر فى ان نجعلها متطابقة كل التطابق بعضها مع بعض …ان كرامة عقولنا تقتضينا الا نقذف بشفاهنا كلمات لها من الخطورة ما لهذه الكلمات الثلاث دون ان نكون على وعى كامل بما هو مضمر فيها من معان …واذن فهى قضية جديرة بالنظر المتأمل الدقيق لكى تطمئن قلوبنا بأننا اذ نصف انفسنا بهذه الصفات الثلاث …فنحن نعنى مانقوله ونعيه

انه لمما يبعثنا حقا على ابتسامة الساخر ان نجد انفسنا بصدد سؤال نسأل به عن حقيقة الهوية المصرية لان السؤال عن حقيقة الهوية اذا  جاز طرحه على الشعوب بالنسبة الى شعوب قصيرة التاريخ – فهو فيما يبدو – لايجوز طرحه على اقدم امة فى التاريخ … فمصر حين اجتازت سبعين قرنا من الزمن وخاضت خلالها حضارات تعاقبت عليها لم يكن لها فى كل مرحلة هوية خاصة اختلفت عن هويتها قبل ذلك وبعد ذلك بل كانت هى هى مصر مع زيادة فى عمق الخبرة وفى رهافة الحس الحضارى عند ابنائها انها لم تكن فى كل مرحلة جديدة يجيئها بها التاريخ تغسل عن جسدها غبار المرحلة السابقة بل كانت كالذى يرتدى ثوبا جديدا يضيفه الى ثيابه او كانت مثل كرة الثلج التى شرح بها هنرى برجسون فعل الزمن الكائن الحى فى ان تلك الكرة كلما تدحرجت على سفح الجبل ازدادت كثافة الثلج فى كيانها .

ان اللحظة الجدبدة فى حياة الانسان لاتمحو فعل اللحظات السابقات بل تضيف اليها جديدا …فاذا  نخن اجرينا على المصرى بحثا تحليليا بالمنهج البنيوى الجديد ( الذى يروجونه هذه الايام فى النقد الادبى وفى غيره مما يتصل بالانسان وحياته وتاريخه) لخرجنا من البحث ببنية مركبةبقدر ما يتسع لذلك المحصول الحيوى الخيرى الغزير الذى امتصته مصر على امتداد القرون والذى كونت به هويه المصرى.

نعم لبعث فينا ابتسامة الساخر ان نجد مجال السؤال مازال مفتوحا امامنا …من هو المصرى ؟

ايدخل فى عناصر هويته انه عربى وانه مسلم … واذا كان ذلك كذلك فكيف كان ؟

لكن ما حيلتنا وفى الموقف الحاضر شئ من الخلط وتداخل العناصر بعضها فى بعض حتى لتتعذر علينا الرؤية الواضحة فى كثير من الاحيان .

فمن حيث انا مصرى ارانى معتزا بميراث اسلامى منذ اول يوم شهدت فيه الارض مصريا يترك على تربتها اثار قدميه …

وكيف لااعتز بذلك الميراث ولم يكن المصرى بما شيده لاهيا ولا عابثا …انه حكم… وديانة …و عمارة …وفن… وزراعة… ونصر فى القتال … فلو كان قد تسلل الى دمائى من كل جانب من جوانب ذلك المجد اقل من خردلة لكان فيما ورثته من هؤلاء الاسلاف ما يملأ نفسى اعتزازا بآبائى الاولين …الى هنا والقول منساب فى سلاسة وسهولة واقتناع … لكننى مسلم يتلوا كتاب الله ويؤمن بكل ماجاء فيه ومن بين ما جاء فيه اربعة وسبعون آيه عن فرعون وفى كل آيه منها اشارة الى ضلالة من ضلالاته.

تلك اذن احدى النقاط التى قد تثير القلق فى نفس من اراد وهو مصرى مسلم ان يظل فخورا بأسلامه فى تاريخه القديم فهل يكفى لزوال ذلك القلق ان نقول ان الايات الكريمة انما تعنى فرعون واحدا …هو فرعون موسى  ( واظن انه  هو رمسيس الثانى ) جاءه موسى عليه السلام  بآيات الله فابى وظلم …وقال موسى يافرعون انى رسول من رب العالمين …قال الملأ من  قوم فرعون ان هذا لساحر عليم فدمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون …واذ انجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب …كداب آل فرعون وال\ين من قبلهم كفروا بآيات الله …فاهلكناهم بذنوبهم واغرقنا آل فرعون”.

اقول هل يزيل القلق من  نفوسنا ان تكون آيات الكتاب الكريم التى ورد فيها ذكر فرعون انما قصدت الى فرعون واحد وان سيئات هذا الفرعون الواحدفى مناصبته العداء لبنى اسرائيل وللرسالة الموسوية …لاتمحو حسنات الفراعين وما اقاموه من ركائز الحضارة الانسانية ودعائمها على مدى اربعة آلاف عام … اللهم نعم وبهذا اقنعت نفسى وحللت هذه المشكلة وازحتها من الطريق .

لكن المشكلة الاعوص هى ذلك التداخل المربك بين العروبة من جهة والاسلام من جهة اخرى …فواقع الامر هو ان هذين المفهومين لايتطابقان احدهما مع الآخر تطابقا كاملا …بل هما متداخلان… بمعنى ان العروبة  والاسلام  يتلاقيان معا فى العرب المسلمين وليس العرب المسلمون هم كل المسلمين ولا هم كل العرب فمن العرب من هم غير مسلمين ومن المسلمين من هم غير عرب… وبعبارة اوضح نقول  ان هناك ثلات فئات :فهنالك فئة العرب المسلمين وهنالك ثانيا فئة المسلمين الذين هم غير عرب كابناء تركيا ةايران وباكستان واندونسيا وغيرهم وهنالك ثالثا فئة العرب من غير المسلمين معظمهم يدين بالمسيحية كما فى لبنان ومصر وغيرهما …فاذا قال المصرى -مثلا- اننى انتمى الى العروبة والى الاسلام معا وجب ان يكون مفهوما ان الانتماء هنا له معنيان وليس معناه فى الحالة الاولى مطابقا لمعناه فى الحالة الثانية فالمصرى عربى بمعنى انه يتجانس مع سائر العرب فى نمط ثقافى واحد متعدد الجوانب والفروع واما المسلم المصرى فهو ينتمى الى الامة الاسلامية بجانب واحد هو جانب العقيدة الدينية وليس من الضرورى بعد ذلك ان تكون بقية  جوانب الحياة الثقافية مشتركة بين المصرى والباكستانى او الاندونيسى او غيرهما من المسلمين غير العرب.

ان درجات الانتماء لاتتدرج درجة درجة مع درجات الاهمية بل قد يكون اشد ما انتمى اليه التصاقا ليس هو اهم جانب من جوانب حياتى فربما كانت عقيدتى الاسلامية من حيث الاهمية اهم جوانب حياتى …لكن انتمائى لاسرتى ولقريتى ولوطنى وللعروبة وللانسانية جمعاء يجئ فيه ترتيب الدرجات على اساس آخر غير الاهمية وقد يكون هذا الاساس هو المشاركة الوجدانية فهذه المشاركة الوجدانية بينى وبين افراد اسرتى اقوى بالطبع من المشاركة الوجدانية التى بينى وبين مسلم من الصين وروسيا دون ان يغير هذا الموقف الوجدانى من حقيقة كون اسلامى اهم جانب من جوانب حياتى .

فالمعانى كما ترى متداخل بعضها فى بعض ومن هنا كانت صعوبة التفرقة بينها لكنها صعوبة يجب ان تذلل ليصبح تفكيرنا محددا وواضحا من حيث الانتماء …مصريون قبل ان نكون جذءا من الوطن العربى …ثم نحن عرب قبل ان نكون جذءا من الامة الاسلامية …واكرر القول مرة اخرى حتى لايسوء الفهم فاقول ان ان درجات الانتماء هذه شئ و…اهمية الاسلام للمسلم شئ آخر ولماذا يكون انتمائى للعروبة سابقا على انتمائى للامة الاسلامية… الجواب هو ان بينى وبين العرب نمطا ثقافيا كاملا بكل جوانبه فى حين ان مابينى وبين سائر الامة الاسلامية هو جانب واحد من تلك الجوانب المكونة للنمط الثقافى الا وهو جانب القيدة الدينية .صور كاميرا الموبايل 1000

قد يكون الامر بحاجة الى مزيد من الشرح لنتبين فى وضوح ماذا نعنى بالنمط الثقافى الكامل الذى يحتو ان اكون  -انا المصرى – جذءا لايجذأ من الوطن العربى فأقول العروبة نمط ثقافى من عاش حياته منخرطا فيه كان عربيا بغض النظر عن عرقه ومن اهم المقومات التى يتآلف منها ذلك النمط الثقافى : اللغة والدين وفلسفة القيم الاخلاقية والجمالية والاعراف والتقاليد والدعائم الاساسية التى يقام عليها النظام الاجتماعى من  الاسرة و ما يضبط العلاقات بين افرادها من قواعد الى المجتمع القومى من حيث هو بناء موحد تسرى فى انحاءه ضروب من الروابط بين الافراد وهنالك فى التاريخ العربى رجال لم يكن انتماؤهم العرقى عربيا اذا جعلنا العروبة مقيدة بحدود جغرافية معينة هى شبه الجزيرة العربية … لكن احدا منا لايتردد فى ضمهم الى العروبة من زاوية الاطار الثقافى الذى قضوا فيه حياتهم ونشاطهم وفكرهم وعقائدهم والا فمن الذى يريد منا  ان يخرج من العروبة رجالا مثل البخارى والترمذى وابن سينا والغزالى لكونهم ينتمون الى فارس من الناحية العرقية وليست العروبة بدعا وحدها فى كونها قائمة على نمط ثقافى معين لا على انتماء عرقى … فها هى ذى الولايات المتحدة الامريكية -مثلا- قد ضمت كل اجناس الارض من ناحية العروق لكنها قومية واحدة برغم ذلك التنوع بسبب الوحدة الثقافية التى يحيون فى اطارها او هم يحاولون جهدهم ان يحيوا فى اطارها لتتحقق لهم الروح القومية فى اقوى صورها .

العروبة اذن نمط ثقافى تجئ اللغة فى مقدمة عناصره ونحن اذا قلنا ان العرب يتكلمون اللغة العربية فلسنا نعنى هنا ان اللغة مجرد مجموهة من الرموز يتم بها التفاهم بين جماعة من الناس …كلا…وانما نعنى اللغة العربية من حيث هى طريقة خاصة للتفكير واستثارة المشاعر وقد يوجد من يدرس اللغة العربية من حيث من غير ابنائها دراسة تجعله ملما بمفردتها وطرائق تركيبها – كالمستشرق مثلا لانعده منخرطا فى العروبة لان اللفة فى هذه الحالة قد درست فى الظاهر كما ندرس الرموز الرياضية فى معدلات الجبر والحساب لكنه تنغرس فى دارسها على نحو يجعلها مدار فكره وشعوره.

قارن اللفة العربية باللغة الانجليزية -مثلا-تجد بينها ضروبا من الاختلاف يستحيل الا تكون انعكاسا لاختلاف ابناء هذه عن ابناء تلك فى طريقة التفكير ووجهات النظر واتجاهات الوجدان …خذ بعض الامثلة : لماذا تقسم مفردات اللغة العربية اسرا اسرا كل اسرة منها ترتد الى الثلاثى الذى انبثقت منه ( وهنالك قلة من اصول رباعية )بحيث يكفى العربى ان يلم بالثلاثى …مثل :ضرب او كتب وان يلم بطريقة استخراج الفروع التى تنبثق من ذلك الينبوع ليكون على علم باستخراج المشتقات التى يريدها فى المناسبات المختلفة فما دام يحمل فى جعبته الفعل كتب اصبح يسيرا عليه ان يستخرج منه افراد الاسرة جميعا :كاتب مكتوب كتابة كتاب …الخ وما كذلك اللغة الانجليزية فالانجليزى اذا عرف الفعل الدال على “كتب “لم يستطع استخراج الاسم “كتاب” لان هذا الاسم فى لغته قائم بنفسه وليس مشتق من فعل كتب ولذلك فان عليه ان يحفظه كما ورد …فهل من  شك  فى ان تجميع المفردات اللغوية تحت رؤسها الثلاثية انعكاس للروابط الاسرية او القبلية او العشائرية فى نظامنا الاجتماعى ؟

فالمتكلم باللغة العربية من ابنائها يعيش لغته فى نظامه الاسؤرى ويعيش نظامه الاسرى فى لغته فاذا وجدت جماعة من الناس اختلفت عروقها لكنها التقت فى لغة كهذه بكل دلالتها كانت تلك الجماعة منتسبة الى قومية واحدة . ولماذا اكتفت اللغة الانجليزية فى التقسيم الكمى بأن جعلت الاسماء اما “مفردا ” واما “جمعا”  فى حين جعلته اللغة العربية تقسيما ثلاثيا : المفرد والمثنى والجمع ؟ لماذا افرد العربى للمثنى خانة ودمجه الانجليزى خانة “جمع”؟ هل يمكن لاختلاف كهذا الا يعكس اختلافا بين الجماعتين فى رؤية الاشياء ؟فبينما العربى يساير تقسيمه الثلاثى والابعاد الثلاثية الكائنة فى المجسمات كلها وهى :الخط والسطح والكتلة …او قل الطول والعرض والارتفاع فأحتفظ بهذه الحقيقة الثلاثية ليظهرها فى لغته تفرقة بين ماهو مفرد وماهو مثنى  وما هو جمع والتقابل بين الاشياء وابعادها واللغة واقسامها تفاعل له مايبرره لان السطح ماهو الا خطوط تجاوزت  والحجم ما هو الا سطوح تتابعت اقول انه بينما للعربى هذه الرؤية فللانجليزى رؤية اخرى .

ولماذا حرصت اللغة العربية على التفرقة الكاملة بين المذكر والمؤنث فى كل لفتة من لفتاتها على حين اكتفت اللغة الانجليزية فى تلك التفرقة بمواضع دون اخرى … ففى  العربية اذا خاطبت رجلا بقولك” انت “فتحت التاء واذا خاطبت امرأة كسرت التاء …اما فى الانجليزية فضمير المخاطب مشترك ومعظم الاسماء فى اللغة الانجليزية لاتفرقة فيها بين رجل وامرأة فقولك “مدرس” او “كابت” او “ممرض” وآلاف اخرى من هذا القبيل وتنصرف الى الرجل والمراة على حد سواء.

فاذا كنت تقرا صحيفة او كتابا ووجدت جملة انجليزية معناها ” قال الطفل ان المدرس اعطاه كتابا” لما عرفت اهو طفل او طفلة ولاعرفت اهو مدرس او مدرسة لان الاسماء وحدها فى اللغة الانجليزية لاتفرق لكننا نعرف ان اللغة العربية تتعقب تلك التفرقة بين المذكر والمؤنث فى  جميع اوضاعها والمفرد والمثنى والجمع فلكل من القسمين طريقته الخاصة التى تذكره بها اللغة العربيةفهل يمكن الايكون هذا الصدى للتفرقة الحادة فى حياة العربى بين الذكر والانثى ؟وهكذا وهكذا تستطيع ان تجد عشرات  الجوانب الرئيسية فى البناء اللغوى الدالة عاى حقائق معاشة فى حياة الانسان العملية او الفكرية مما يبرر لنا القول بأن جماعة الناس الذين يتكلمون اللغة العربية هى جماعة تحيا بدماء ثقافية واحدةولها رؤية مشتركة ترى بها العالم ومافيه ويترتب على هذه المشاركة ان تكونتلك الجماعة مكونة لقومية واحدة ,

وما قدمناه عن اللغة ودلالاتها نقول مثله عن موقف الناس من فلسفة القيم اخلاقية وجمالية واجتماعية فاذا  وجدنا جماعة تتميز دون سائر الجماعات بوقفة خاصة بها فى وجهة نظرها بالنسبة الى مبعث القيم كان لنا مايبرر اعتبار تلك الجماعة مندرحة فى نموذج بشرى واحد ولنحصر حديثنا الان فى القيم الاخلاقية من وجهة النظر العربية فلابد لنا بادىء ذى بدء من لفت الانظار الى حقيقة هامة وهى ان الفوارق بين شعب وشعب فى هذا المجال  . ليس هو ان شعبا يجعل فعلا ما فضيلة من الفضائل  فى حين يجعله الشعب الآخر رزيلة. كلا فالانسانية كلها تكاد تتفق على الرءوس  الكبرى لما هو فضيلة وماهو رزيلة  . ولعل ” الوصايا العشر”هى خير مايلخص لنا اهم مايلتقى عنده شعوب الارض جميعا فيما يجب على الانسان فعله او عدم فعله فى حياته الخلقية . فليس بين شعوب الارض شعب يجيز القتل بغير ذنب ويجيز السرقة ويجيز الكذب والغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد.

كل شعوب الارض متفقة فى هذا المجال ولا يعنى هذا الاتفاق بينها ان يزل الافراد هنا او هناك فيخطئوا.

اقول ان موضع الاختلاف الاساسى بين الشعوب فى المسالة الخلقية ليس هو فى يقين الفضائل الواجبة والرزائل المنهى عنها بل موضع الاختلاف بينها هو فى تعليل ذلك الوجوب او هذا النهى . نعم كلنا متفقون على ضرورة الوفاء بالعهد ولكن لماذا كان الوفاء بالعهد واجبا خلقيا مفروضا على الانسان هنا نجد الاجابة عن هذا السؤال تختلف باختلاف الثقافات التى تتميز بها الشعوب بعضها عن بعض والذى يبرز ضروب الاختلاف هذه هم فلاسفة الاخلاق فهؤلاء هم الذين يتغقبون الثقافات المختلفة الى جذورها الاولى فقد نجد بعد البحث ان الشعب الانجليزى يرى ان الوفاء بالعهد فضيلة لان خبرة الانسان الطويلة بالحياة قد دلت على ان وفاء الناس بعهودهم اضمن لقيام  المجتمع وعلاقات افراده بعضهم مع بعض على اساس مكين ثابت ولكنك اذا اجريت مثل هذا البحث على جماعة العرب لترى وجهة نظرها فى تعليل هذا الوجوب نفسه الذى يقضى عبى الناس الوفاء بعهودهم فربما وجدت ان التعليل عندها هو ان ذلك من فروض الدين . وهكذا ترى تعليلات مختلفة عند الشعوب المختلفة للظاهرة الخلقية الواحدة ولست اريد ان اترك الحديث فى هذه النقطة قبل ان اعيد التوكيد بأن اختلاف الشعوب فى المسائل الاخلاقية ليس هو ان هنالك شعوبا متمسكة بالاخلاق وشعوبا اخرى متهاونة فيها بل الاختلاف – كما قلت- هو فى التعليل وهو اختلاف قلما يطرأ للانسان  العادى فى حياته اليومية لكنه يظهر على يدى من دأبه تعقب الحقائق الى اصولها الاولى .

فكلما وجدنا المشاركة فى لغة عربية واحدة تتضمن ان يكون المشاركون ذوى رؤية واحدة فى موقفهم من العالم ومن الحياة مما يبرر ان يعدوا امة واحدة فكذلك نقول ان المشاركة فى تعليل واحد للظاهرة الخلقية مبرر آخر لاعتبار المشتركين اعضاء فى جماعة واحدة فاذا اجتمع المبرر الاول والمبرر الثانى معا فى جماعة بعينها اذدادت الفكرة قوة بأن تلك الجماعة منتمية الى قومية واحدة .

وليست اللغة العربية ووجهة النظر الاخلاقية هما وحدهما مايربط ابناء الامة العربية فى حقيقة واحدة بل تضاف اليهما عوامل  اخرى كثيرة منها طريقتهم فى قياس درجات الكمال للأشياء فما الذى يجعل حيوانا اكمل من حيوان …وشجرة اكمل من شجرة …وانسان أكمل من انسان ؟ … اذا بحثنا عن الجواب عند الفكر الغربى وجدنا هناك مقابلة بين الفكرة والشئ بمعنى ان الذهن البشرى يتصور صورة معينة او تعريفا معينا للشئ ثم تقاس مفردات الكائنات من حيث درجات كمالها الى تلك التعريفات العقلية لها ليحكم على درجة كمالها بدرجة اقترابها من النموذج النظرى …تلك هى خلاصة الوقفة الاوروبية… او قل وقفة الغرب … واما فى الامة العربية فالوقفة مختلفة لان العربى ايا كان موقعه من الوطن العربى الكبير لايقيس الشئ المراد الحكم عليه الى  ” فكرة  عقلية ” بل يقيسه الى شئ آخر من جنسه … فالجواد يقاس الى جواد امثل  وقصيدة الشعر تقاس الى قصيدة اخرى … الانسان الى انسان ىخر اتفق الرأى على كماله …وهكذا

ليست غايتنا مما اسلفناه دفاعا عن وجهة نظر وتجريحا لاخرى بل اردنا ضرب الامثلة التى توضح مازعمناه وهو ان العروبة ان هى الا انتماء الى نمط ثقافى معين وكان علينا ان نوضح ما اردناه بهذه العبارة …ومصر فى هذا النمط الثقافى الذى تتميز به العروبة قد تميزت به وامتازت فيه اذ كانت اقدر من سواها على تمثل تلك الرؤية بكل تفصيلاتها وعبرت عن ذلك بسلوكها وبما ابدعته من فكر وفن .

فلئن كانت الهوية المصرية اقدم وارسخ واوضح من ان تكون موضعا لسؤال الا ان هنالكامورا تثير شيئا من القلق عند من يريد لنفسه التيقن والدقة … وهى امور تنشأ من سيل المفاهيم المقترنة واعنى المصرية والعروبة والاسلام بالمصرى  المسلم الصادق مع نفسه يريد ان يطمئن على انه ليس فيما ورد عن فرعون وقومه فى الكتاب الكريم مايستلزم انتقاصا لشعور المصرى بالاعتزاز بأسلافه … ثم يريد المصرى المخلص لنفسه ى ان كذلك ان يطمئن بأن المصرية والعروبة لايتناقضان بل ان الاولى تحتم الثانية واخيرا يريد العرب ان يمون واضح الرؤية فيما يختص بأنتسابه الى العروبة والاسلام معا ولهذا كله عرضت ما عرضته هذا …لان القضية تستحق النظر .

 

 

 

 

 


زكي_نجيب_محمود

شاءت لي المصادفات منذ وقت قريب، أن أسمع من عالمين من علماء الدين، قد يكونان مختلفين في كثير جدا من جوانب الحياة وأوضاعها، لكنهما بغير يتفقان في أنهما من ذوي الفضل والعلم ورفعة المقاصد، أقول إن المصادفة قد شاءت لي أن أسمع منهما كلاما يفرقان به بين “الدين” من جهة و “التدين” من جهة أخري، وكان الذي يقصدان إليه من هذه التفرقة، هو أنه إذا كان التدين واجبا علي كل مسلم علي السواء، فالدين هو من شأن علمائه وحدهم، دون سائر المؤمنين به، ويترتب علي ذلك أن تكون الكلمة فيما يجوز وما لا يجوز من أمور الدين، مقصورة علي العلماء، وواجب العامة بعد ذلك هو السمع والطاعة، وكان مما سمعته من العالمين الفاضلين في سياق الحديث مع كل منهما (وكان الحديث مقروءا في إحدى الحالتين، ومسموعا مباشرة في الحالة الأخرى) تأكيدهما بأن الدين علم، وأما “التدين” فهو وحده الجانب المتروك لكل مؤمن في انفراده.

ولم يكن العالمان الفاضلان علي صواب ـ كل الصواب ـ فيما ذهبا إليه، فليس الأمر مقصورا علي طرفين: دين في ناحية، وتدين في ناحية أخري، بل هو ثلاثي الأطراف: فهنالك “الدين” أولا، وهنالك من يتدين به ثانيا، ثم هناك “العلم” الذي يقام عليه ثالثا، وقبل أن أتناول هذه الفكرة بالشرح الذي يوضحها، أقول إنه لو كان الفرق بين الرأيين شكليا فقط، لما تعرضت له هنا، وحاولت عرضه، لأنني ـ والله يعلم ـ ما فعلت ذلك إلا بعد تردد طويل، لكنه فرق يجاوز مجرد الشكل إلي صميم الموضوع، مما قد يترتب عليه غموض فيما يجب علي المؤمن العلم به، وما ليس له وجوب، وعلي أية حال فتحديد الفواصل بين المعاني المختلفة في مثل هذا المجال الحيوي الهام، إنما هو من أوجب الواجبات علي من يستطيع بذل المحاولات الواعية في سبيل ذلك التحديد، واحسبني ممن يستطيعون.والحقيقة الأولي: التي أقدمها لتكون هي الركيزة التي نقيم عليها تفكيرنا، هي أن حقائق الواقع في ذاتها ليست هي العلم، وإنما هي ما يقام عليه العلم، فانظر إلي هذه الأمثلة المختلفة التي أسوقها بين يديك، وتدبرها مليا.

وقبل أن ننتقل إلي موضوعنا الذي أردنا الحديث فيه: إذا رأيت شجرة يستظل بها عابر سبيل، فهنالك ثلاثة أطراف متميز بعضها عن بعض، ولكنها كذلك موصولة بعضها ببعض، فهنالك الأمر الواقع الذي هو الشجرة، ثم هنالك من شاء له حظه أن ينعم بها فيستريح، وهنالك فوق ذلك “علم” أقيم علي هذه الشجرة، وأمثالها، وهو علم النبات، فإذا قال لك قائل في هذه الحالة: الشجرة علم، فماذا أنت قائل له إلا أن تصححه، بقولك إن الشجرة ذاتها ليست هي العلم، وإنما هي وأمثالها، موضوع طرح للبحث العلمي، وأقيم عليه من يسمونه علم النبات، وواضح أن الشجرة والعلم المقام عليها يختلفان عن طرف ثالث، هو عابر الطريق الذي التمس راحته في ظلها.خذ مثلا ثانيا، “اللغة” ـ ولتكن لغتنا العربية ـ فهي كذلك حقيقة من حقائق الواقع الفعلي، إذ هنالك أمة تتكلمها وتكتبها، وهنالك كتب كتبت بها تعد بالملايين، وهنا في حالة اللغة ـ كما رأينا في مثال الشجرة ـ نستطيع أن نميز بين ثلاثة أطراف، منفصلة ومتصلة في آن واحد،فهنالك اللغة واقعا من الواقع نسمعها، ونكتبها بأقلامنا، ونقرؤها بأبصارنا،ثم هنالك “علم” (أو علوم) تقام علي تلك اللغة، كعلم النحو وعلم الاشتقاق، وغيرهما، وقد كان يمكن أن تقوم اللغة ولا تقوم علومها، مما يقطع بأن اللغة ذاتها شئ، وعلومها شئ آخر، وهنالك إلي جانب اللغة وعلومها طرف ثالث، من يستخدمون تلك اللغة كلاما وكتابة.خذ مثلا ثالثا “الضوء” فانظر إلي شخصي ساعة كتابتي لهذا الكلمات، واضعا أمامي مصباحا مضيئا أستعين به مع ضوء النهار، فها هنا أيضا تري ثلاثة أطراف، متصلة منفصلة، فهنالك ظاهرة الضوء نفسها سواء جاءت علي الصورة التي يجئ بها ضوء الشمس، أو جاءت كما يجئ ضوء المصباح، وإلي جوار هذه الظاهرة هناك المستضئ بالضوء ليكتب، ثم هنالك فوق الضوء والمستضئ طرف ثالث، هو “العلم الذي يسمونه “علم الضوء” أقامه أصحابه علي ما درسوه من ظاهرة الضوء.

ولعلك الآن تعرف بماذا ترد علي من يزعم لك أن الضوء نفسه الذي تراه العين آتيا من الشمس أو من المصباح هو “علم”؟ فأحسبك قد أدركت أن ظاهرة الضوء شئ والعلم القائم عليها شئ آخر وقد كان يمكن لظاهرة الضوء أن توجد ولا يوجد إلي جانبها علماء يقيمون عليها علما.خذ مثلا رابعا “علم الاقتصاد”، تجد الأطراف الثلاثة التي حدثتك عنها، فطرف منها هو أولئك الذين ينتجون في مزارعهم أو في مكاتبهم، أو فيما شئت من أوجه النشاط البشري. وطرف ثان يتمثل فيمن يتبادل هؤلاء إنتاجا بإنتاج، أو خدمات بإنتاج، وقد كان يمكن لأسواق البيع والشراء أن تحيا بكل نشاطها دون أن يتناولها الباحثون بالحث العلمي، لاستخراج القوانين التي تستخلص من ذلك النشاط وطبيعته، لك حدث أن أقيم ذلك “العلم” ـ علم الاقتصاد ليحلل ذلك الضرب من التفاعل البشري تحليلا يستخرج ما قد انطوي عليه من قوانين، وهكذا تري مرة أخري، أن حقيقة الأمر الواقع في ذاتها ليت هي العلم، وإنما العلم فعل آخر يؤديه أصحابه علي أسا ذلك الأمر الواقع.وقد كان يكفيني ذكر هذه الأمثلة، لأنتقل منها إلي موضوع حديثنا وهو المتمثل في الأطراف الثلاثة المذكورة في العنوان، والتي لحظت في رؤية الناس ـ حتى أهل الاختصاص منهم ـ شيئا من الخلط، وهي: الدين والتدين وعلم الدين (أو علوم الدين)، أقول إنه كان يكفيني ما ذكرته من أمثلة، لأقرر علي ضوئها أن “الدين” قائم في نصوصه المحددة المعينة، ثم يأتي الطرفان الآخران، طرف منهما متمثل فيمن يؤمنون بذلك الدين، وهم من يصنفونهم ” بالتدين” وأما الطرف الثاني فهو “علم الدين” (أو علومه) التي تقام علي تلك النصوص ـ وهي واقع الدين ـ فتستخرج منها ما تستخرجه من مبادئ وأحكام ، فلو قال لنا قائل: الدين علم (كما سمعتهم يقولون) رددنا عليه بقولنا: بل الدين يقام عليه العلم، وكان يمكن أن يقوم الدين والمؤمنون به، دون أن يتولاه نفر من العلماء بالبحث العلمي، كما هو من الممكن كذلك أن يتولي غير المؤمنين بدين معين، نصوص ذلك الدين بالتحليل والاستدلال، وذلك لأن “العلم” المقام علي نص معين” لا يشترط له أن يكون الباحث العلمي “مؤمنا” بمضمون ذلك النص.مرة أخري أقول إنه كان يكفيني ما قدمته من أمثلة لأوضح به أن “الدين” شئ، و”علم الدين” شئ آخر، والإنسان المتدين بذلك الدين شئ ثالث، لكنني أري أن أزيد الأمر جلاء، بأن أعرض بإيجاز شديد طبيعة العلم ما هي؟ حتى إذا ما صادفتنا بعد ذلك عبارة “علم الدين” عرفنا المعني المقصود، ونجونا من الخلط بينه وبين غيره من المعاني في هذا المجال.

العلامة الفاصلة بين ما يجوز له أن يكون علما وما لا يجوز له أن يكون، هي قابلية الحكم بالصواب أو بالخطأ، فإذا كان القول المعروض بين يديك، مما يمكن أن يوصف بأنه صواب أو بأنه خطأ، وذلك بعد فحصه وتمحيصه، كان مما يجوز إدراكه في مجال المعرفة العلمية، وأما إذا وجدت القول المعين مما يستحيل وصفه بالصواب أو بالخطأ، إلا علي قائله، فهو وحده الذي يزعم له الصدق، دون أن يكون في مستطاع الآخرين أن يراجعوه لتحققوا من صدق زعمه، فمثل ذلك القول لا يحمل جواز المرور الذي يدخله في عالم المعرفة العلمية، مهما كان له من أهمية في حياة الإنسان.قارن مثلا بين رجل يقول لك عن بقعة من الأرض إنها محببة إلي قلبه، ورجل آخر يقول عن تلك البقعة من الأرض، إنها تحتوي في جوفها علي بترول، فبينما القول الأول معتمد كل الاعتماد علي صدق قائله، بحيث لا يجد الآخرون وسيلة أمامهم للتحقق بأنفسهم من ذلك الصدق، نجد القول الثاني مما يمكن إخضاعه لوسائل البحث التي تنتهي بنا إلي قبوله أو رفضه، فالقول الأول يشير به صاحبه إلي حالة شعورية باطنية يحسها هو في دخلية نفسه، والطريق إلي مراجعته، للتحقق من صدقه، مفتوح أمام كل إنسان تؤهله دراسته للقيام بتلك المراجعة.

ولئن كانت العلامة الفاصلة بين ما يصح إدراجه في المعرفة العلمية وما لا يصح، هي قابلة القول المعين لأن يتحقق الآخرون ـ غير قائله ـ من أنه حق أو من أنه باطل، فلقد حدث في عصرنا هذا تعديل في هذا المعيار، قد يبدو طفيفا، لكنه في حقيقته ذو أهمية كبري، وهو أن قابلية القول المعين للحكم عليه بالبطلان، لها الأولوية علي قابليته لأن يحكم عليه بأنه حق، وذلك لأنه قد تتكاثر عليه الشواهد الدالة علي صدق قول معين، فيغرينا ذلك، بالاطمئنان لذلك القول، وفجأة تظهر بينة جديدة تقلب لنا ذلك الحكم رأسا علي عقب، فكم من رجل يظل يعطيك من شواهد إخلاصه لصداقتك، حتى لتتوهم أنت بأنه لابد أن يكون صادقا لكثرة الشواهد الدالة علي ذلك، وفجأة يظهر لك الخبئ، فإذا حقيقة الأمر أنه كان يلبس لك قناع الصداقة المخلصة، لكنه كان في الوقت نفسه يخفي عنك ما يخفيه، انتظارا للحظة المناسبة، فيقذف ذلك الخبئ في وجهك وأنت منه علي غرة غافلة.فالفصيل الحاسم في قبول الفكرة المعينة عضوا في الأسرة العلمية هو ـ إذن قابليتها للبطلان ـ، بمعني أن يحاول الباحثون إبطالها بكل ما في وسعهم من تجارب ، فإذا صمدت لهذه المحاولات، كانت فكرة صحيحة مؤقتا إلي أن يظهر في مستقبل قريب أو بعيد ما يبين بطلانها.لكننا لكي نحكم علي فكرة، أو قول، بأنها فكر صحيحة أو خاطئة، فذلك لا يكن إلا بالرجوع بها إلي مقياس قائم خارجها، فإذا قلت عن الجدار إن طوله أربعة أمتار، فلابد أن يكون هنالك مقياس “المتر” في وجود مستقل عن وجود الجدار، وها هنا نتقدم بأساس هو من أهم الأسس المنهجية في البحث العلمي وخصائصه، وذلك أن للعلم طريقين مختلفين باختلاف نوع المادة المعروضة للفكر، ولكل طريق من الطريقين ضرب من المقاييس التي يرجع إليها في تقرير الصواب والخطأ، أما أحد الطريقين فخاص بالتفكير العلمي عندما يكون الموضوع المطروح للبحث ظاهرة من ظواهر الواقع الطبيعي، وأما الطريق الآخر فمجاله عندما يكون الموضوع المطروح للنظر العلمي توليدا لأفكار من أفكار، أو توليدا لنتائج تترتب علي نصوص معينة، ففي هذه الحالة لا يكون لظواهر الواقع الطبيعي دخل في سير الباحث العلمي.

ونعيد ما قلناه عن الطريقين المختلفين في التفكير العلمي، نعيده بصورة أخري ابتغاء مزيد من التوضيح، فنقول إن هنالك مجموعتين من العلوم، وذلك إذا قسمنا العلوم علي أساس “المنهج”، فهنالك مجموعة العلوم الطبيعية، بما فيها العلوم الإنسانية، إذا نحن أخذنا الإنسان من ظاهر سلوكه، ثم هنالك مجموعة العلوم الرياضية، بما في ذلك كل علم ينهج نهج الرياضة في اتخاذ مقدمات مسلم بها لتكون هي السند الذي يرجع إليه في إثبات صدق النتائج، أما مجموعة العلوم الطبيعية فنقطة البدء في طريق سيرها معلومات أولية نستمدها من مشاهدات الحواس وتجاربها، وأما مجموعة العلوم الرياضية (أو ما يدو مدارها في المنهج) فنقطة البدء في طريق سيرها مقدمات لفظية مسلم بصوابها مقدما.ونعود بعد هذا التقسيم إلي ما أسلفناه، من أن الفيصل الحاسم في تمييز ما يصلح أن يكون علما مما لا يصلح، هو القابلية لإثبات بطلانه، حتى إذا ما استعصي علي ذلك الإبطال، عد إذا ما يجوز قبوله في عالم التفكير العلمي، فنسأل إزاء مجموعتي العلوم اللتين ذكرناهما ، ماذا تكون وسائل التحقق من الصدق واستحالة البطلان في كل منهما؟ والجواب هنا هو أننا في العلوم الطبيعية، نجعل إمكان تطبيق نتائجنا التي نصل إليها علي أرض الواقع الفعلي، هو مقياس القبول، وأما في مجموعة العلوم الرياضية، أو ما ينهج نهجها، فوسيلتنا إلي الحكم بصواب النتيجة أو بخطئها، هو الرجوع بها إلي المسلمات الأولي، التي صدرنا بها خطوت السير، والتي جعلناها مفروضة الصدق مقدما، فإذا وجدنا أن النتيجة المعينة قد تولدت تولدا سليما من تلك المقدمات المسلم بصوابها، كانت نتيجة صحيحة، وألفت نظرك مرة أخري، إلي أن هذا الضرب من التفكير العلمي، لا شأن له بأمر من أمور الواقع الفعلي، في عملية الحكم بالصواب والخطأ.

وبعد هذا كله، نعود إلي “علم الدين” فنراه علما قائما ضمن المجموعة الرياضية من حيث المنهج، وذلك لأن الباحث العلمي فيه، يسير علي خطوتين، هما كالخطوتين اللتين يسيرهما الباحث في العلوم الرياضية، أما الخطوة الأولي في علم الدين، فهي المقدمات المسلم بصوابها بادئ ذي بدء، وأولي تلك المقدمات عند العالم الديني المسلم، هو بالطبع النص القرآني الكريم، وأما الخطوة الثانية في طريق السير، فهي استخراج ما يمكن استخراجه من نتائج، تتولد من ذلك النص، فإذا تولدت لأحد العلماء نتيجة معينة ـ كأن يتولد له حكم شرعي معين مثلا ـ كان من حق من يراجعونه أن يسألوه عن النص الذي ولد منه هذا الحكم.

وطريقة الاستدلال التي مكنته من ذلك التوليد، وقد يختلف العلماء بعد ذلك فيما يرونه مترتبا علي نص معين، فتنشأ بذلك الاختلاف مذاهب.هذه العملية الاستدلالية التي تنصب علي النص المعين لتستخرج منه ما يجوز استخراجه مع التزام منطق القياس، هي عملية “علمية” كأدق ما تكون العلوم، فمن الحقائق التي يجب توضيحها في سياق حديثنا هذا، عن التفكير العلمي وطبيعته، أن العلم لا يشترط لنفسه موضوعا بعينه، إذ العلم إنما يكون علما بمنهجه لا بموضوعه، فاختر ما تشاء من موضوع للنظر، وتناوله بالمنهج الذي يضمن لنا سامة الوصول إلي نتائج صحيحة، تكن بموضوعك ذاك صاحب نظرة علمية، فقد تختار لبحثك “العلمي” صخور المقطم، أو دودة القطن، أو تلوث الهواء في سماء القاهرة، أو المسرح الشعري عند شوقي، أو موقف المصري تجاه الولادة والموت، أو أي موضوع يعن لك أن تتناوله بالبحث العلمي، فأنت بما اخترته تكون في دائرة العلم ـ فهو كما أسلفنا لك القول ـ إما أن يرتكز علي مشاهدات الحواس في حالة العلوم الطبيعية، ويكون مقياس الصدق هو التطبيق علي الواقع، وإما أن يرتكز علي مسلمات مفروض فيها الصدق مقدما، في حالة العلوم الرياضية أو ما يدور مدارها، ويكون مقياس الصدق هو سلامة استدلال النتائج من تلك المسلمات ـ وعلم الدين (أو علومه) من هذا الضرب الثاني.

لكن علم الدين، لا هو “الدين” ولا هو “التدين” إنما هو فاعلية عقلية تقام علي الدين، ومن الجائز أن يكون للقوم “دين” يعتنقونه بمعني أن يكون لهم “كتاب” يؤمنون بما جاء فيه، دون أن يكون قد ظهر من بينهم من يتناولون ذلك الدين بالتفكير العلمي ومنهجه، ولعلي لا أخطأ إذا قلت إن الإسلام قد لبث “دينا” للمؤمنين “يتدينون” بمبادئه وتعاليمه فترة قبل أن يظهر “الفقهاء” ليقيموا عليه العلم بمنهج التفكير العلمي.إنه عندما نزلت الآية الكريمة، وفيها قول الله تعالي: “اليوم أكملت لكم دينكم…”، كان قد كمل دين الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يكن قد كتب بعد سطر واحد في أي علم من علوم الدين، مما يقطع بأن الدين نفسه شئ، والمتدينين به شئ ثان، والعلوم التي تقام عليه شئ ثالث.وتسألني فيما: فيم هذا العناء كله، وهو عناء قد لا يغير من الأمر الواقع شيئا؟ فأجيبك بإجابات ثلاث: أولاها إجابة تشبه إجابة أول رجل استطاع صعود جبال الهملايا إلي قمتها، فسأله سائل: ولماذا عانيت كل ما عانيته عدة أعوام متعاقبة حتى استطعت تسلق الهملايا إلي قمتها؟ فقال له لمتسلق (وأظنه كان “مالوري”) لأن الهملايا موجودة، وإجابتي الثانية هي أن الحياة الفكرية بمعني من أدق معانيها، هي تحديد المعاني بين الفواصل المتداخلة أو المتشابهة، ولك أن تحكم علي امة بدرجتها في مدارج الحياة الفكرية، بمقدار ما استطاع أبناؤها تحديد المعاني التي يتداولونها، وإجابتي الثالثة هي أنني ـ كما ذكرت لك في أول الحديث ـ صادفت اثنين هما من أفضل علمائنا في الدين، لكنني عجبت لهما ـ لكل منهما علي حدة حين صادفته مقروءا أو مسموعا ـ إذ رأيتهما لا يفرقان بين الدين وعلم الدين، والتفرقة الوحيدة عندهما هي بين الدين من جهة والمتدين من جهة أخري، ولهذه النظرة ما لها من نتائج، لعل أيسرها هو حرمان المؤمن العادي البسيط، من أن يكون له “دين” يعرفه، ويقرأ كتابه، ويقيم عليه حياته مستهديا بمبادئه، دون أن يكون إلي جواره علماء دين أقاموا علمهم علي أساس نصوصه، نعم، إن وجود العلماء أضمن لدقة المعرفة وضبطها، ولكن ماذا إذا لم يجد مؤمن في محيطه عالما؟


عين_ فتحة _ عا

بقلم : الدكتور ذكى نجيب محمود
1984/12/17
الاهرام ص 13 download

معذرة اذا كنت قد اخترت لهذا الحديث عنوانا يعود بالذاكرة الى عهد الكتاتيب ولكن …
عذرى فى اختياره مع كل ما فيه من خروج على المألوف هو كثرة مايدور بيننا اليوم من احاديث غاضبة عن العلمانية- هجوما ودفاعا- وسواء أكان المتحدث مهاجما ام كان مدافعا فكلاهما ينطق اللفظة مكسورة العين وكأنها منسوبة الى ( العلم) مع ان حقيقتها هى العين المفتوحة نسبة الى ( العالم) الذى نقضى فيه حياتنا الدنيا ولو كان المخطئون هم من ابناء هذا الجيل فقط لقلت انها جهالة تضاف الى جهالات لكن موضع العجب هو انى سمعت رجالا من المع الرجال الذين هم فى الحقيقة ممن ينتسبون الى الجيل الماضى وقد امتد بهم الاجل ليقطعوا شوطا من مرحلة هذا الجيل -مد الله فى اعمارهم وبارك لهم فى ايامهم- ولست ادرى كيف جاز لهم الوقوع فى خطأ كهذا وكلنا يعرف ان جيلنا الماضى كان على كثير جدا من صحوة الضمير العلمى الذى يدفع اصحابه الى المراجعة والتثبت من صحة مايقولونه او يكتبونه او قل ان رجال الجيل الماضى كان لهم من تلك الصفات قدر ملحوظ وبينهم وبين ابناء هذا الجيل فى ذلك مسافة من السبق لاتخطئها عين كما انها تستوقف الانتباه لتعليل حدوثها .
ولقد ورد فى القاموس الوسيط الذى اخرجه مجمع اللغة العربية بالقاهرة عن كلمة علمانية ( الجذء الثانى ص630) مايلى :العلمانى نسبة الى العلم (بفتح العين وسكون اللام)بمعنى العالم وهو خلاف الدينى او الكهنوتى .
ولو كان الفرق فى المعنى بين ان تكون العلمانية مكسورة العين او مفتوحة العين فرقا يسيرا يمكن تجاهله لقلنا انه خطأ لاينتج ضرراً كبيراً ولكن الفرق بين الصورتين فى نطق الكلمة فرق لايستهان به مما يستوجب الوقوف والمراجعة .
اننى كلما قرأت لكاتب فى هذه الايام كتب ليهاجم العلمانية …وهو يشتعل بالغضب …ارانى دون قصد منى قد تذكرت قصة قصيرة لسومرست موم خلاصتها:
ان شابا من هواة الفن فى بلد ما كان شديد الاعجاب بفنان اسبانى حتى لقد قرر السفر الى اسبانيا ليلتقى به فلما وصل الى حيث يعيش الفنان وعرف سبيله الى مسكنه ضغط على زر الجرس وفتح له الباب …فقال للخادم الذى فتح له الباب:لقدجئت للقاء سيدك فأدخله الخادم واجلسه فى غرفة استقبال الزائرين وكان من مجلسه ذاك يستطيع رؤية الهابط على سلم الدار من طابقها الاعلى الى طابقها الارضى ،فلما ان رأى السيد على درجات السلم …رأئ شيخا وقورا ابيضت لحيته…ودبت فى جسده شيخوخة واضحة المعالم فاخذ الشاب يتفرسه بنظراته من بعيد، هامسا لنفسه مايؤكد له بأن هذا الوقار كله وتلك الجبهة العريضة الوضاحة الوضاءة، وشعره الابيض الطويل الذى تهتز زوائبه على عنقه وفوديه كلها تدل على ان ذلك الفن الرفيع الرائع الذى عرفه له وهو هناك فى بلده لابد ان ينضح به مثل هذا الجلال الوقور والهدوء الساكن والحكمة التى ينطق بها كل ما اراه فى هذا الرجل حتى اذا ما التقيا وتلاقت كفاهما بالتحية وجلسا فى صمت دقيقة او دقيقتين،قال الشاب للشيخ:كم تملؤنى السعادة اذ ارانى جالسا فى حضرة فلان الفنان العبقرى العظيم فأجابه الشيخ فى هدوء : لقد اخطأت العنوان يا ولدى ففلان الفنان يسكن فى البيت المجاور لبيتى .
وهكذا كلما قرات لكاتب فى هذه الايام يهاجم العلمانية اذ تكون فى ظنه مكسرة العين منسوبة الى العلم تمنيت لو انى رأيت ذلك الكاتب جالسا امامى لاقول له شيئا يشبه ما قاله ذلك الشيخ للزائر الشاب:لقد اخطأت الطريق يا صاحبى فالذى تسدد اليه سهامك ليس هو العدو الذى ظننته ولكن بينه وبينه فارقا صغيرا فى الملامح كبيرا فى حساب الحقائق فهذا الذى تهاجمه مكسور العين وعدوك الحقيقى مفتوحها…كان ذلك الخلط بين صديق وعدو …هو عذرى فى اختيار العنوان لعله يشد القارئ فيرهف الاذن ويفتح العين .
وماهى العلمانية بفتح العين؟
لااظن ان لهذه الكلمة وجودا فى اللغة العربية قبل عصرنا الحديث ولكنها كلمة ترجمنا بها -فى عصرنا-كلمة مقابلة لها فى اللغات الاوربية والكلمة هناك لها عند القوم اهمية وتاريخ، على عكس الحال عندنا فقد كان ينبغى الاتكون لها اهمية .وهى بحكم الواقع ليس لها عندنا تاريخ اما اهميتها وتاريخها هناك فلآن عصورهم الوسطى ( التى هى الفترة الواقعة بين القرنين الخامس والخامس عشر من التاريخ الميلادى) شهدت لرجال الدين سلطانا رفعوا به مثلا اعلى امام الناس. يتمثل فى حياة الرهبان فالزهد فى الدنيا لا الاقبال عليها هو ماينبغى للانسان الكامل ان يهتدى به وذلك لان عقيدتهم تسمح لهم بأن يفصلوا بين الارض والسماء، بين الدنيا والاّخرة ،وفى الاولى تكون السيادة لقيصر وفى الثانية يكون الامر لله. ولما كان الغض من الدنيا وقيمتها ينتهى بالضرورة الى اهمالها اهمالا يخف به وزنها فى اعين الناس وبالتالى تقل الرغبة فيما يؤدى الى الارتقاء بشئون الحياه فيها ، فلايكون علم ولايكون عمل،اذا جاز لنا مثل هذا التعميم الجارف ،فكان من ابرز ما تميزت به النهضة الاوربية التى نفرت لتقضى على هذا الوخم كله …ان هب الناس وكأنهم ارادوا ان يعبوا الحياة النابضة فى اجوافهم عباً لم يتركوا طريقا للمغامرة الا سلكوه فى نشاط محموم فمنهم من اقلع بالسفن فى بحار الظلمات ليكشف عنها ظلماتها ومنهم من اخترق افاق الارض اليابسة التى كانت تتناثر الى مسامعهم اخبارها دون ان يروها وكأنها ارض يراها النائمون فى احلامهم ومنهم العلماء الذين اتجهوا بأبصارهم نحو السماء يتعقبون اجرامها فى مسالكها بل ومنهم الفلاسفة الذين اصروا على ان يغوصوا بتأملاتهم فى طبيعة الانسان ذاتها ليروا ذلك العقل المتستر فى عظام الجمجمة كيف يعمل وتلك المشاعر كيف تسرى رعشاتها فى الجوانح ،فنتج عن هذا كله بعث هو الذى خلق لهم اوروبا الحديثة كما نعرفها . ومن هنا ارتفعت صيحة (العلمانية) كأنها تقول :عليكم بهذا العالم ! عليكم بهذا العالم! لاتهملوه!
فما لنا نحن بهذا كله وليس فى عقيدتنا ما يدعونا الى اهمال هذا العالم ؟ بل العكس هو الصحيح فقد امرنا بأن نحتفل بالدنيا وكأننا نعيش فيها ابداً وان نعمل للاّخرة كأننا منتقلون اليها غداً…مالنا نحن بهذا كله والدنيا فى عقيدتنا انها الفرصة التى اتيحت لنا ليبلونا الله تعالى فيها اينا احسن عملا…ان صيغة الحياة للأوروبى فى عصوره الوسطى يمكن ايجازها كما يلى:
اما الدنيا واما الاّخرة ولا اجتماع بينها فمدينة الارض شئ مبتور الصلة بمديمة السماء واما صيغة الحياة عندنا فيمكن ايجازها فيما يأتى :
لابد للحياة الدنيا ان تمارس على ان تظل الاّخرة هدفا اسمى …فكلتاهما خير …ولكن الاّخرة خير وابقى …والاّخرة خير من الاولى…فهل هناك اذن فى حياتنا وعقيدتنا ما يدعو الى صيحة تقول :عليكم بهذا العالم فلاتهملوه …فأذا كنا قد رأينا انفسنا وقد اهملناه بالفعل وغفونا عنه فأخذ منا الضعف والهزال والفقر والجهل …حتى امسك الطغاة برقابنا …فأن ذلك لم يكن ناشئا عن عقيدة تحول بيننا وبين وبين هذا العالم بل كان لاسباب حضارية وهذه الاسباب هى التى يجب ان نقلعها من ارضنا اقتلاعاً.
تلك هى العلمانية…
التى لم تكن تحتاج منا الا ان نفتح لها العين فاذا هى جذء من حياتنا ومقوم جوهرى من مقومات تاريخنا فى فترات عزه ومجده فمن الذى يحاربه اولئك الذين ركبوا جيادهم وحملوا قسيهم ورماحهم ليقاتلوا (العلمانية)حتى يقتلوها…ايحاربون عصر الرشيد والمأمون الذى نشطت فيه الحياة الدنيا بقوة نبضها والتى هى فى الوقت نفسه الزهرة الحضارية الثقافية التى نشير اليها حين نريد ان نقول للناس : انظروا كيف ازدهرنا؟
ولست ابالى اذا كان فى صدور الدعاة الى العلمانية (بفتح العين)فى ايامنا غل يخفونه وراء ستارها لانهم اذا كانوا كذلك فلنحاربهم فى اشخاصهم ولا نحارب الدعوة الى الاهتمام بالعالم لان هذا العالم هو مسرح العمل والنشاط وموطن الحضارات والا فأين تريدوننا ان نقيم للحضارة على ارضنا قائمة؟
واذا كانت مقاومة من يقاوم العلمانية بفتح عينها مصيبة فالمصيبة اعظم فيمن يقاومونها بكسر العين لان عينها اذا كسرت كانت الاشارة عندئذ الى العلم والى الحياة التى تقيمها العلوم…فهل يرضيكم ايها السادة ان نزرع ارضنا بغير علم وان ندير مصانعنا بغير علم وان ننشئ مدارسنا وجامعاتنا لغير العلم وان نعد عدتنا العسكرية بغير علم هل يرضيكم ايها السادة ان نمحو اسماء العلماء من تاريخنا فلا يكون فيهم بعد اليوم جابر بن حيان ولا الخوارزمى ولا ابن الهيثم ولاابن النفيس واذا رأيتم فى هؤلاء وامثالهم مواضع فخر لنا لانهم رجال اقاموا للعلم قوائمه فلماذا لاتريدون لاحفادهم المعاصرين ان يعيدوا سيرتهم الاولى؟ لا …محال ان يكون هذا ما تبتغونه ومحال ان تكون سهامكم موجهة الى العلم فى حياتنا واذن فلماذا يبقى للعلمانية اذا كسرت عينها لتحاربوه .
ومرة ثانية اقول اننى لاابالى ان يكون فى صدور الدعاة الى العلمانية بكسر عينها شر مكتوم يريدون به حياتنا الدينية على افتراض جاهل منهم بانه اذا كان علم فلا دين!
فقد ذهبت عن الناس غفلة استبدت بهم حينا طويلا من الدهر -فى بلادنا وفى بلاد الغرب كذلك- حين لعب الشيطان بعقولهم فأوهمهم الا مصالحة بين علم ودين ، فأذا قام احدهما غاب الاّخر ،ذهبت عن الناس هذه الغفوة لان الانسان انسان بعلمه ودينه معا وارجع الى كتاب الله الكريم والى حديث رسوله عليه افضل الصلاة والسلام وانظر فى كم موضع يأتى الحض على العلم بل اننا لنعرف ذلك جيدا ونعيده ونكرره فيما نكتبه ونذيعه فى الناس …فقل لى بالله من ذا الذى يحاربونه اولئك الذين يحاربون العلمانية وهى مكسورة العين ،على اننى اود ان اضيف هنا انه لاوجود فى لغتنا -قديمها وحديثها معا- لهذه الكلمة فدورانها على الاقلام اذن هو وهم يضاف الى وهم ليكتنف حياتنا وهم مركب.
ان الحياة الفكرية كما عاشها اسلافنا كان معظمها يدور حول محور نعرفه جميعا ونردده جميعا ونعلمه لطلابنا ونتحدث عنه فى محاضراتنا ونعرضه فى مؤلفاتنا -وذلك المحور هو محاولة التوفيق بين العقل والنقل-كما كان يقال -اما العقل فكان المراد به هو ماورد فى الفلسفة اليونانية التى نقلوا الجذء الاكبر منها الى اللغة العربية واما النقل فكان المراد به قريبا جدا مما نطلق عليه اليوم اسم التراث ولكن اهم ما كانوا يقصدون اليه فى المنقول هو الشريعة .
فكان السؤال عندهم هو هذا :هل هنالك تعارض بين ماجاء به فى شريعة الاسلام من جهة وماورد فى الفلسفة اليونانية من جهة اخرى ولم يكونوا ليجيبوا عن سؤالهم هذا اجابة عشوائية بل جاءت اجابتهم -او قل اجابة الكثرة الغالبة منهم- هى انه نتيجة دراسة تحليلية دقيقة وخلاصتها هى انه لاتفاوض بين الطرفين فما تقوله الشريعة بلغتها هو هو نفسه ماتقوله الفلسفة اليونانية بلغتها ،اعنى ان الشريعة والفلسفة قد تضع كل منهما ما ارادت ان تقوله فى مفاهيم تتناسب مع سياقها لكننا اذا ما حللنا تلك المفاهيم عند هذه وعند تلك وجدنا الحق واحدا بينهما ولا غرابة فالحق لايتعدد.

فاذا اردنا اليوم ان نصنع فى حياتنا الفكرية صنيع اسلافنا فكيف يكون ذلك ؟ الاجابة عندى واضحة وضوح الشمس الساطعة وهى ان تدور حياتنا الفكرية على المحور نفسه الذى دارت عليه حياة اسلافنا واعنى النظر فى موروثنا نظرة الدارس الفاحص وان ننظر فيما عند الثقافات الاخرى لاسيما ما يكون منها عند صناع الحضارة الحديثة فى عصرنا نظرة الدارس الفاحص كذلك لنرى كيف يكون التوفيق بين الطرفين اذا كان هذا التوفيق ممكنا …وحيثما وجدناه ممكنا …ان اوربا بالنسبة الى اسلافنا كانت هى اليونان القديمة وثقافة اوربا فى ذلك العهد ايضا كانت هى ماعرفه اهل اليونان من فلسفة وعلم (وكان لهم ادبهم لكن العرب غضوا عنه النظر) فهل يتغير الموقف فى جوهره …اذا كانت اوربا قد مدت اجنحتها عبر الاطلسى ليصبح الغرب هو اوربا وامريكا معا ثم اذا كان لهذا الغرب فى صورته الجديدة علوم ظهرت فى صورة جديدة تغاير علوم اليونان الاقدمين واذا كان له فلسفة حديثة قد لاتكون شبيهة كل الشبه بفلسفةاليونان الاقدمين لست اظن ان شيئا فى الموقف مأخوذا بجوهره قد تغير واذن يكون انتهاجنا نهج اسلافنا هو ان نلتمس صيغة ثقافية جديدة نجمع فيها رحيقا الى رحيق فى اناء واحد.
فاذا كان هذا الجمع بين الرحيقين هو نفسه ما يطلقون عليه اسم العلمانية بعين مفتوحة فأهلا بها واذا كان ما يسمونه بهذا الاسم بعين مكسورة فمرحبا بها ان الاسماء لاتسكنها العفاريت فاخشاها… اننى اخشى او لااخشى ذلك الذى تسميه تلك الاسماء اذا وجدت فى المسمى ما اخشاه …فهل اخشى ان يكون هذا العالم الجديد موضوعا لاهتمامى فى علومه وفى اّدابه وفى فنونه وفى كثير من نظمه ان حياة الحى هى ان يتفاعل مع ما يحيط به اخذا وعطاءا فما الذى يخيفنى من العلمانية فتحت عينها او كسرت انه بفتحها تكون دعوة الى الاهتمام بعالمنا الذى نعيش فيه وبكسرها تكون دعوة الى العلم وكلتا الدعوتين معلنتان فى عقيدة الاسلام وشريعته.
لست الزم احدا بأن يستعين فى حياته الفكرية بالعادات التى نشأت انا عليها فى حياتى الفكرية ووجدت فيها عونا كبيرا فى زيادة الوضوح وحسن الفهم ومن تلك العادات ان اطالب نفسى اذا وجدتنى امام فكرة فيها بعض الغموض بالبحث عن شخص بعينه يجسد تلك الفكرة المراد توضيحها وكثيرا ما اوفق فى ذلك فتتحول الفكرة المجردة الى انسان معين اعرفه واعرف خصائصه ومميزاته فينزاح عن الفكرة المجردة تجريدها وعن الفكرة الغامضة غموضها فمن الذى اراه-ياترى-يجسد لنا بشخصه المتعين ذلك الضرب من اللقاء الثقافى بين تراثنا ومنتجات عصرنا فى دنيا الفكر؟
ان اول من يرد الى خاطرى كلما القيت على نفسى هذا السؤال هو طه حسين فالى جانب مؤلفاته ذات القيمة الكبرى ارى فى شخصه ماهو اهم منها فيما نحن الاّن بصدد الحديث فيه واعنى بذلك طريقته فى الجمع بين موروثنا وروح العصر اما موروثنا فلا اظن احدا يجادل فى سعة المامه بذلك الموروث الماما فيه الدقة وفيه الفهم واما روح العصر فظاهر فى منهجه وفى رؤيته وتصوره …والاّن فلنعد الى موضوعنا لنسأل :
هل كان طه حسين (علمانيا)بفتح العين او بكسرها من الناحية التى يراها المهاجمون بلاء يشين من صاحبه انه رجل كان موفور الحظ فى العلم وشديد الميل الى التفاعل مع عالمه فهل تدرجه هاتان الصفتان فيما يراه المتشنجون حقيقا بأن يقاوم حتى يزول .
واسوق مثلا اّخر لرجل جمع فى شخصه الحسنيين وربما كان ابعد من طه حسين عن اثارة القلق وهو الشيخ مصطفى عبد الرازق فهو الاّخر يلم بالموروث ألماما يجعل ذلك الموروث على اطراف اصابعه وهو فى الوقت نفسه يحيط بأهم مادار فى عقول علماء الغرب فى ميدان تخصصه وهو لم يضع هذا الى جانب ذاك كما نضع مصوغات الذهب الى جوار مصوغات الفضة فى صندوق …بل مزج الجانبين فى نفسه وتكون له من المزيج منهج ورؤية وتصور فهل هذه الوقفة المتزنة تدرجه فى (علمانية)مفتوحة العين او مكسورتها بالمعنى السئ الذى يهاجمه المهاجمون …اننى حقا وصدقا لاادرى ولقد انبأنى من انبأنى ان كاتبا مصريا من هؤلاء (المجاهدين)فى صحيفة عربية اعنى صحيفة مما يصدر فى بلاد الخليج فقال عنى اننى واحد من هؤلاء( العلمانيين)وليتنى اسمع منه ما يواجهنى الى موضع الخطأ منى لاصححه ، اهو لاننى الممت بأطراف من موروثنا وبأطراف من نتاج العصر ومزجت الجانبين معا فى صيغة واحدة لو كان الامر كذلك اذن فهو تشريف لا استحقه ومكانة لاادعيها.
اننا اذا عدنا بالذاكرة الى المناخ الفكرى فى عصورهم الوسطى لرأينا ان النموذج المجسد الذى يوضح ذلك المناخ والذى كان هو نفسه النموذج الذى جائت به نهضة اوروبا لتطيح به وتقيم مكانه نموذجا اّخر هو الراهب الزاهد ومن هنا انبثقت الدعوة عند النهضة الى ( علمانية ) تفتح الاّفاق واسعة لينفتح للناس امل فى مستقبل جديد وحدث بالفعل ان انبثق للأوروبيين فى نهضتهم نموذج بشرى اّخر هو الذى وضعناه فيما اسلفناه …وقد يدهش الاخوة المهاجمون لما يسمونه بالعلمانية اذا عرفوا ان ذلك النموذج الجديد الذى ولدته النهضة الاوروبية ليحل محل الراهب الزاهد كان اهم ما يتميز به فى بناء ثقافته الجديدة العودة الى الادب الكلاسى عند اليونان الاقدميين والعجيب الذى يلفت النظر هو انهم اعتبروا احياء الادب الكلاسى ذاك( رومانسية) تثير الخيال فى مبدعاتهم الجديدة فالعلمانى بالمعنى الذى عرفه اصحابه لايعنى التنكر للموروث بل العكس هو الصواب لان احياء ذلك الموروث يتضمن عدة معان يكون العلمانى علمانيا بها… فهنالك جانب الانتماء وهناك جانب الخروج من صوامع الرهبان.
ليس كل ما قدمته اليك هنا دفاع عن احد ولا هجوم على احد …ليس فيه تشيع لمذهب وتنكر لمذهب …وانما قصدت هدف واحد هو ان يكون المدافعون عن ( العلمانية) بيننا والمهاجمون لها اكثر حرصا على ان يتثبتوا ليعلموا عن اى شئ يدافعون او يهاجمون .


337257_Large_20150411124500_41

موقف يتكرر فى الشوارع التى تقع تحت اعين الامن تنكد على المشتركين فيها من المارة وبعض رجال الامن ولنا نحن المناضلون عبر الكيبورد …حلها العملى عند الحكومة بتجميع بعض الباعة الجائلين وارسالهم الى اسواق مجمعة فى اماكن جديدة لن تستوعب سوى بعضهم فقط … بائع القصب ليس لصا ويريد ان يعمل ويعيش ويتعب فى اللف فى الشوارع من اجل قروش قليلة لن تكفيه حتى لو لف 24 ساعة فى اليوم …لم يجد من يهتم بتوجيهه وارشاده لما يجب عليه ان يفعل لكى يعيش بشرف… لم يهتم احد بأستغلال طاقته وقدرته على العمل فيما يفيده ويفيد البلد … لذلك سيستمر مسلسل النكد طالما استمر لف الباعة الجائلين فى الشوارع دون ان يتكرم احد رجال الامن او احد المارة لكى يفهمهم ان اللف فى الشوارع لبيع شئ ما …هو سلوك غير متحضر مؤذى له ولنا جميعا واننا جميعا متهمون بالتخلف وعدم التحضر لاننا تركنا مشاكلنا الصغيرة تتراكم حتى اصبحت مشاكل كبيرة … تركنا المواطنات الريفيات يحملن من القرى القريبة الخضار والفاكهة والجبن القريش والفطير المشلتت والبيض البلدى وغيره على رؤسهن صباح كل يوم ليفترشن ارصفة اى شارع يعجبهن وهمهن الاول بيع مالديهن من بضاعة وتثبيت عدد من الزبائين الدائمين المعتمدين عليهن فى تلبية احتياجاتهم اليومية من الخضار والفاكهة الطازجة بسعر معقول … هل يبحث الباعة الجائلين على المتاعب بالمواجهة كل حين مع حملات الازالة التى لايعرف احد كيفية عملها وطبيعته ونتيجتهتواصل-حملات-إزالة-إشغالات-الباعة-الجائلين-فى-ميدان-الجيزه-تصوير-عماد-الجبالى-19-585x390-338x172
ام انهم يفضلون اللف والتعب والانتقال من مكان لاخر فى ظروف جوية صعبة وظروف مزاجية متغيرة للامن … يمكن ان تتغير الصورة لو ابدينا اهتماما حقيقيا بالناس ومساعدتهم على اخراج احسن مافيهم لمساعدة انفسهم ورفع المعاناة عنهم و الاشتراك فى ايحاد حل لمشكلة قد تتفاقم وقد تتسبب مع الوقت وتطور الاحداث الى مشاكل اخطر …مشكلة تركها بلا حل جريمة انسانية …
244436_0
وتجاهلها وعدم الالتفات اليها جريمة تساوى تماما تناولها من وراء ظهوراصحابها من اهلك ومواطنيك بتوجيه النقد والتأنيب لهم وانت على علم انهم لن يطلعوا على ماتكتبه عنهم وحتى اذا اطلعوا عليه فلن يثفيدهم لانه لايقدم لهم حلا لمشكلتهم … تماما كما ان السكر الذى يستخرج من القصب حلو الا انه يمكن ان يكون مصدر لنكد من نوع ما .images (1)


د.نوال السعداوى

download

أشرقت الشمس لحسن حظي، فى مدينة لندن خلال مارس 2015،وقد تلقيت الدعوة للتحدث فى مؤتمر المرأة العالمي، وامتلأت القاعة
بمئات الشباب والشابات فى العشرينيات والثلاثينيات من العمر، هؤلاء هم جمهورى اليوم داخل الوطن وخارجه، قرأوا كتبى بالعربية أو المترجمة، بعضهم من البريطانيين، وبعضهم من العرب أو من مصر وبلاد أخرى فى آسيا وإفريقيا، أحفاد وحفيدات الذين هاجروا من أوطانهم، هربا من القهر السياسى أو طلبا للتعليم العالى أو بحثا عن العمل إلى جوارى على المنصة كان يجلس أحد نجوم الإعلام البريطاني، وهو رجل ضخم الجسم ممدود العنق، بدا كالطاووس منفوخا بنفسه، لكنه انتهى منكمشا فى مقعده، بعد أن سقط وجهه وهو يحاورني، وقفت القاعة الكبيرة معى بشبابها وشاباتها وصفقوا لى وقوفا.

كان حديثى يدور حول الإبداع والمرأة والثورة، وعن الشعب المصرى بنسائه ورجاله من جميع الفئات والأعمار، الذين نجحوا فى إسقاط مبارك بثورة يناير 2011، ثم إسقاط حكم الإخوان المسلمين بعد ثورة يونيو2013.

لكن النجم الشهير (كعادة النجوم فى العالم ) لم يكن يدرك ما يحدث فى مصر، بل كان يجهل أبسط الحقائق عن الشعب المصرى ونضاله ضد الاستعمار الخارجى والاستبداد الداخلى، وقد تصور أن ماحدث عندنا ليس ثورة شعبية بل انقلابا عسكريا ضد الحكم الديمقراطى وسألته: أى حكم ديمقراطى تقصد؟ قال: حكم الإخوان المسلمين برئاسة مرسى سألته: هل كان ذلك الحكم ديمقراطيا؟ قال: نعم سألته :كيف عرفت أنه ديمقراطى ؟ قال: جاء حكم الإخوان بالانتخابات سألته: وهل الانتخابات هى الديمقراطية ؟ سكت طويلا فسألته : وهل يمكن لأى حكم دينى، إسلامى أو مسيحى أو يهودى أو غيره، أن يكون ديمقراطيا ؟

لم يكن هذا الإعلامى الطاووسى (الذى يدعى العلم بأحوالنا أكثر منا) هو الوحيد الذى يرفض ثورة يونيو 2013 الشعبية فى مصر، التى أسقطت الحكم الدينى المستبد، بل هناك عدد غير قليل من أمثاله، أساتذة جامعات من البريطانيين، ومن الأساتذة العرب والمصريين، ممن يعتبرون أنفسهم من اليسار الاشتراكى أو الماركسي، هؤلاء فقدوا المنطق البسيط أو البديهيات، خوفا من القوى الحاكمة البريطانية، أو تملقا للقوى الإسلامية التى نمت وترعرعت فى ظل الحكومات المتعاقبة فى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية منذ رونالد ريجان ومارجريت تاتشر .

خلال وجودى فى لندن تلقيت دعوات لإلقاء محاضرات فى بعض الجامعات داخل لندن وخارجها ، فى أكسفورد ومانشستر وجولد سميث، وجامعة أدنبرة فى اسكتلندا وغيرها، وكان أغلب الشباب والشابات، الطلاب والطالبات، أكثر وعيا من الأساتذة، بما يحدث فى بلادنا، وقد رفض المسئولون بإحدى الجامعات فى لندن دعوتى للتحدث بها، وجاءتنى رسالة اعتذار وتوضيح من إحدى الأستاذات البريطانيات بهذه الجامعة تقول لي: اعترض رئيس قسم الدراسات العربية (وهو مصرى أصلا) ورئيسة قسم الدراسات النسائية (وهى عربية أصلا) وكبار المسئولين فى الجامعة من اليسار البريطاني، اعترضوا على دعوتك للحديث بها، بحجة أنك تساندين الحكم العسكرى الحالى فى مصر برئاسة السيسي، الذى اقترف (فى رأيهم)عددا من الجرائم ضد الديمقراطية وحقوق الانسان، وكنت الأستاذة الوحيدة من الإشتراكيين اليساريين، وبعض زملائى أساتذة قسم الدراسات الإفريقية، الذين تحمسوا لدعوتك.

ويدور النقاش الحامى الآن بين الفريقين، المعارض والمؤيد لك، وأخشى أن تغادرى لندن دون أن نصل الى قرار، ولعلك قرأت فى الصحف أن حكومتنا الرشيدة برئاسة كاميرون سوف تعلن غدا (الاثنين 16 مارس 2015) أن الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، لكن هذا دخان إعلامى فقط ، فالحكومة البريطانية تسير على خطى الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبى وإسرائيل، ولا يمكن لكل هؤلاء الاستغناء عن خدمات الجماعات الاسلامية الارهابية، لتفتيت وتجهيل وتخويف الشعوب، ابتداء من تنظيم القاعدة إلى الطالبان الى الإخوان المسلمين وحماس وبوكو حرام وغيرها.

السبت14 مارس 2015 قام كاميرون رئيس الوزراء البريطانى بمشاركة وزير المالية الهندي، بإزاحة الستار عن تمثال المهاتما غاندي، فى ميدان البرلمان، انتصب غاندى نصف العارى بجسده النحيل متحديا البرد عام 1931 فى زيارته الأولى لبريطانيا، حين سأله الملك الامبراطور : لماذا لا ترتدى ملابسك؟ قال غاندي: أنت يا سيدى ترتدى لنا نحن الاثنين. تم بناء هذا الميدان أمام البرلمان عام 1868، بناه المهندس المعمارى تشارلز داري، أمام كاتدرائية وست مينستر آبي،ينتصب فيه أحد عشر تمثالا لشخصيات تاريخية، منهم أول من اخترع النظام البوليسى البريطانى الحديث( الكونستابلات )،هنرى جون تنبل، كان رئيسا للوزراء من 1834 – 1846، بنى تمثاله 1876، ثم إبراهام لينكولن( بنى تمثاله عام 1920) ثم تمثال جان سموث، رئيس وزراء جنوب إفريقيا قبل العنصرية، بنى تمثاله1956، ثم وينسون تشرشل( بنى تمثاله 1973 )، نلسون مانديلا (بنى تمثاله 2007) وينتصب اليوم تمثال غاندي، بين هؤلاء الحكام بملابسهم القوية وأجسامهم الفتية، يقف المهاتما عارى الساقين النحيلتين تنم ملامحه عن الفقر والهزال، لكنه أصبح من أهم الشخصيات الإنسانية التى لعبت دورا فى النضال ضد حكم الذين يقفون معه فى ميدان البرلمان بقلب لندن.

رأيت شابا هنديا، يلف جسمه بشال قديم يشبه الذى يحوط كتفى غاندي، رأيته يتطلع إلى التمثال ويتنهد : إذا كان غاندى قد فعلها فلماذا لا أفعلها وأنا هندى فقير مثله ؟


نوال-السعداوي_9958

د.نوال السعداوى

أصبحت الصورة أشد بشاعة من الحقيقة فى هذا الزمن القائم على الصور، هل يمكننا التعرف على إنسان ليس له رأس أو وجه؟ لكن الحزب السلفى
وأغلب الأحزاب السياسية المصرية ومنظمات المجتمع المدنى وحقوق الإنسان، أصبحوا لا يرون إلا رءوس الرجال، مسلمين أو أقباطا، وحقوق الإنسان( فى نظرهم) لا تشمل حقوق النساء، وإن حصلوا على الدكتوراه فى تحرير المرأة، تظل صورتها راسخة فى وجدانهم منذ الطفولة، منذ رسمها مدرس الدين على السبورة، على شكل ضلع أعوج أو جسد بغير رأس، وإن ظهر للمرأة » رأس » فهو عضو شاذ، يجب قطعه أو إخفاؤه، امرأة تعجز عن الدفاع عن حق رأسها فى الوجود هل يمكنها الدفاع عن شىء آخر؟

امرأة ليس لها وجه يميزها عن ملايين البشر، كيف يمكنها أن تكون عضوة فى حزب سياسي، تواجه خصومها السياسيين، وتدافع فى البرلمان عن حق الآلاف من الرجال والنساء فى دائرتها لامتلاك رءوسهم؟

الصحف، يوم26 فبراير 2015، نشرت صور «كارنيهات» لعضوات الحزب السلفى بغير رءوس أو وجوه، والمانشيت يقول: سمح حزب النور السلفى لأول مرة لعضواته بالحصول على كارنيهات عضوية وكانت محظورة من قبل لكن مكان رأس المرأة مساحة خالية.

إن قطع رأس المرأة المسلمة فى صور الحزب السلفي، لا يقل بشاعة عن قطع رأس الرجل القبطى فى فيديو داعش، أو تحطيم آثار العراق فى الموصل، وترتفع الأصوات منددة بما حدث للأقباط وللتماثيل الأثرية، فلماذا لا نسمع صوتا يندد بما يحدث للنساء فى الحزب السلفى؟ وهؤلاء النساء لماذا لا يدافعن عن حقوقهن وكرامتهن؟ لا شك أننا نعود الى الوراء قرونا، رغم أربع ثورات كبيرة (وليس ثورتين اثنتين) : ثورة 1919،ويوليو 1952، ويناير 2011 ويونيو 2013) وفى كل ثورة طالبت الملايين بالعدالة والحرية والكرامة لجميع المواطنين نساء ورجالا مسلمين وأقباطا كيف أجهضت هذه الثورات؟ والدستور الذى يمنع تكوين أحزاب دينية هل أصبح حبرا على ورق؟ كيف تخالف الدولة الدستور وتسمح بوجود حزب النور السلفي، رغم أنه بؤرة لأكثر المفاهيم تخلفا، إذ يقوم على فكرتين متناقضتين:

1 – إن الرجل يعجز عن التحكم فى شهوته إن رأى امرأة عابرة، ولهذا يجب تغطية جميع النساء؟

كانت العدالة تقتضى تغطية عين الرجل الفاسد أخلاقيا وليس تغطية كل النساء

2 – إن المرأة ناقصة عقل ولهذا يحق لزوجها السيطرة عليها وتأديبها بالضرب إن عصت أوامره، واجبه الإنفاق عليها، بشرط الاستمتاع بها، فإن عجزت لا ينفق، وإن مرضت يتولى أهلها علاجها، لعجزها عن إمتاعه فى أثناء مرضها، وإن ماتت لا يدفع ثمن كفنها أو تكاليف دفنها، لانعدام شرط الاستمتاع بها بعد موتها، ومن حقه أن يطلقها فى أى لحظة حسب مزاجه، وأن يتزوج أربع نساء فى وقت واحد، هذه عينة من الأفكار السلفية المتناقضة المهدرة لكرامة المرأة والرجل معا، فكيف يعجز الرجل عن التحكم فى شهوته الى حد إخفاء النساء تحت النقاب أو الحجاب؟، ثم كيف ينقلب هذا الضعيف أمام شهوته ليصبح الأقوى الذى يؤدب النساء ويضربهن؟

وكيف تنقلب هذه الضعيفة الناقصة عقلا لتكون الأقوى القادرة على التحكم فى شهوتها فلا يفرض على الرجال الاختفاء تحت حجاب؟ هذه أسئلة بديهية لأى عقل يفكر لكن الأنظمة التعليمية أصابت عقولنا بالعقم والعجز عن التفكير، ورؤية التناقضات الصارخة التى تمر أمامنا، ومنها تناقضات الدولة نفسها، وضياع هيبتها وعجزها عن تنفيذ الدستور والقانون؟

لعب الحزب السلفى دوره السلبى فى لجنة الخمسين، تخاذلت جميع القوى السياسية داخل هذه اللجنة أمام هذا الحزب، وقررت النص فى المادة الثانية من الدستور، على أن دين الدولة هو الإسلام، رغم أن الدولة ليس لها دين، والأرض والوطن لجميع المواطنات والمواطنين وليس فقط للذكور المسلمين.

هل تحتاج الحكومات المصرية دائما لغطاء دينى يحميها من الشعب؟ العريق فى حضارته النابعة من العقل والعدل للحكيمات معات وإزيس وسخمت؟ وقد نجح هذا الشعب فى التخلص من الاستبداد السياسى والدينى معا، فهل تسعى الدولة الآن لإجهاض ثورته عن طريق الحزب السلفى؟

وكيف تتراجع الدولة عن قراراتها وتسمح لهذا الحزب بالصعود الى منابرها وإطلاق أفكاره المعادية للعقل وللنساء والأقباط؟

كيف توافق الدولة وأحزابها ونخبها ومجتمعها المدني، على دخول هذا الحزب السلفى (غير الدستوري) الى البرلمان الجديد، بنسائه المبتورات الوجوه المقطوعات الرءوس؟ وما الفرق بين أفكار هذا الحزب والتنظيم الداعشي؟ تقول مانشتات الصحف، فى أول مارس 2015، إن تنظيم داعش فرض ارتداء النقاب على النساء فى المناطق الخاضعة لسيطرته داخل ليبيا، كما حرموا سير النساء دون محرم، وإلا كانت عقوبتهن الجلد؟

Taliban_beating_woman_in_public_RAWA


متطرف تحت المجهر

 

بقلم المفكر الدكتور ذكى نجيب محمود

 
download
لاأذكر من هو الشاعر ولا من هو الخليفة أو الأمير الذى قال الشاعر شعره بين يديه لكننى أذكر بيتى الشعر اللذان تبادلهما الشاعر والأمير فوضع كل منهما وجهة نظره فى بيت الشعر الذى ارتجله من وحى الموقف فيبدو ان الأمير ( اولعله كان الخليفة المنصور ) كان متسرعا يعجل الفعل قبل ان يتدبره فى روية واناة فوجه اليه الشاعر النصح فى بيت من الشعر اجراه على منوال البيت الذى قاله الشاعر الا انه اخذ فيه بوجهة نظر مضادة اذ قال ان صاحب الرأى ليس فى حاجة الى التدبر بقدر ماهو بحاجة الى العزيمة اذ ليس مايفسد الرأى هو الاسرع به نحو التنفيذ وانما يفسده ان يتردد صاحبه فى تنفيذه وهاذان هما البيتان :

قال الشاعر : اذا كنت ذا رأى فكن ذا تدبر

فأن فساد الرأى ان تتعجلا

فأجاب الامير :اذا كنت ذا رأى ، فكن ذا عزيمة

فأن فساد الرأى ان تترددا

واذكر انى فى ساعة من ساعات الفراغ اخذت الهو فى هذين الموقفين من الحياة فأيهما ياترى اقرب الى الصواب ؟ وهما موقفان كثيرا جدا ما نراهما يقسمان الناس صنفين صنفا يتروى قبل التنفيذ وصنفا اّخر لاتكاد فكرة تطوف بخاطره حتى يسرع الى تنفيذها والاغلب أن يكون الاول ممن انضجته خبر السنين وعرف ان الرأى المعين فى الموقف المعين كثيراً جداً ماتقابله وجهات نظر اخرى تستحق الالتفات اليها والموازنة بينها قبل الانتهاء الى قرارأخير، والاغلب ان يكون الصنف الأول ممن انضجته خبرة السنين وعرف أ ن الرأى المعين فى الموقف المعين كثيراً جداً ما تقابله وجهات نظر اخرى تستحق الألتفات اليها ، والموازنة بينها قبل الانتهاء الى قرار اخير ، والاغلب أن يكون الصنف الثانى ممن لايزال محكوما بانفعالاته وعواطفه من الشباب او من هم فى حكم الشباب فليست العبرة هنا بعدد السنين وانما العبرة بغزارة الخبرة المحصلة او ضحالتها … وبعد مراجعات اقارن فيها بين الموقفين واوازن مع الذهن بحل يجمع بين وجهتى النظر فى موقف واحد ، فليس الصواب هو أن نجعل الأمر بديلين علينا ان نختار احداهما وأن نترك الاخرى فأما أن نتدبر الرأى ونتروى قبل العمل واما أن نعزم عزيمتنا مسرعين الى العمل بلا تردد بين جانب الخطأ منه وجانب الصواب فحقيقة الامر – كما بدا لى – هى أن الطريق الى العمل ذو مرحلتين : اولاهما مرحلة للتدبر …وثانيتهما مرحلة للعزيمة… التى تهم بالفعل بناء على ماوصلت اليه المرحلة الاولى  … فأذا رأينا الناس وكأنهم منقسمون صنفين فى هذا الصدد فما ذلك الا أن صنفا منهم يقف عند المرحلة الاولى وحدها وكأن امعان التدبر قد اصابه بالشلل …واما الصنف الثانى فهو الذى يتجاهل المرحلة الاولى ويجعل نقطة البدء والانطلاق معا فى المرحلة الثانية وكلا الرجلين نصف انسان

ولأمر ما تواردت فى رأسى عند تلك اللمعة الذهنية ذكريات لاحصر لها لمواقف كثر فيها اللغو بيننا … فى التفرقة بين مانطلق عليه اسم  ( الكليات النظرية ) و( الكليات العملية) وهو تقسيم لايجرى بدقة مجرى التقسيم الذى باعد المسافة بين الشاعر و الأمير الا انه رغم ذلك يمت اليه بسبب لأن  شيئا شبيها بما قلناه عن وجوب الجمع بين تدبر الرأى وعزيمة تنفيذه ليكونا مرحلتين لابد ان يتكاملا معا فى الانسان الواحد نقوله كذلك فيما هو( نظرى ) وماهو ( عملى )من ضروب العلم فكل ( علم) عرفته الدنيا من اول التاريخ الذى عرف  فيه الانسان كيف يفكر على نهج العلم هو ( نظرى ) اولا و( عملى ) ثانيا اذا قسم ( للنظرية ) ان تجد من ينقلها الى مجال التطبيق والا فكيف يكون ؟

ايبدأ الانسان بالخبط هنا والتخبط هناك  بغير ( فكرة ) فى فكره ؟

ام انه يبلور خبراته المتفرقة فى  (فكرة ) يقتنع بصوابها ثم يهم بتنفيذها فأما طاوعه الواقع على فكرته فتكون فكرته صحيحة ، واما استعصى الواقع على فكرته فتكون فكرته خاطئة ؟

ولعل ما اضلنا عند القسمة الى  (نظرى ) و (عملى ) فى كليات الجامعة هو خلط فكرى افدح  : اذا حسبنا دراسة العلوم الانسانية  ادخل فى باب النظرى غافلين عن ان النظرى هو مايستند الى النظرية  والنظريات بهذا المعنى تعرفها العلوم الطبيعية اكثر مما تعرفها العلوم الانسانية – لسبب – واضح هو انها قرينة الدقة عندما تعلو درجاتها  … اذا شئت  فراجع  ماشئت من بلاد الدنيا لترى كيف تقسم فيها انواع  الدراسات  ولن تجد فيما اعتقد احداً سوانا نقل صفة  ( النظرى) من موصوفها الحقيقى وهو العلوم الطبيعية الى غير موضوعها الاساسى المباشر وهى العلوم الأنسانية فهذه علوم مختلف علي منهجها حتى اليوم  : هل يكون هو نفسه منهج البحث فى العلوم الطبيعية او يكون لها منهج خاص ؟

وذلك لأن  (النظرية ) فى اى علم اذا ما وجدت سبيلها الى دقة الصياغة  – وغالبا ماتكون الصياغة الدقيقة فى صورة  رياضية كان ذلك دليلا على ان ذلك العلم قد بلغ مرحلة متقدمة من الدقة والقدرة على التنبؤ الصحيح فى مجاله .

ثم انعرجت بى الخواطر نحو الكليات الجامعية وأسمائها فرأيت كم تعجل اولئك الذين اطلقوا تلك الاسماء على غير مسمياتها  فالتى اطلقوا عليها  اسم  ( كلية الآداب ) لاتدرس ادبا بالمعنى المعروف لهذه الكلمة ولا كان مقصودا بها ان تفعل … وانما هى تدرس علوماً أجتماعية  او علوما انسانية  فلماذا لم يسموها بأسمها  : و( كلية التجارة  ) لاتدرس تجارة بل تدرس محاسبة وادارة  فلماذا لم يسموها بأسمها  وكلية  ( الحقوق ) تدرس القانون  فلماذا لاتسمى كلية القانون  كما هى الحال فى سائر بلاد الدنيا ؟

ولكننى سرعان ما اوقفت هذه الخواطر متهكماً قائلا لنفسى  : هذه الاسماء كلها وان اطلقها من اطلقها على غير مسمياتها فهى حتى وان اختلف الناس حول معانيها  فلن يؤدى بهم ذلك الاختلاف الى قتال تسفك فيه الدماء وماذا انت  قائل فى مجموعات اخرى من الاسماء  يفهمها الناس على اوجه مختلفة  ثم ينتهى بهم انقسامهم فى الفهم الى عراك ينشب بينهم  بالكلمات اول الامر ثم يتحول العراك الى ساحات  الحرب ونيران المدافع  … فأسم ( الديمقراطية ) يطلقه فريق  على نظام تتعدد فيه الاحزاب  لتعدد وجهات النظر ويطلقه قوم اّخرون  على نظام الحزب الواحد لواحدية الرأى

الذى لايجوز له عندهم ان يتعدد فاذا قال الاولون هذه هى الديمقراطية  رد الآخرون بقولهم بل الديمقراطية  هى هذه  وعلى العارفين والمنجمين وقراء الكف  والفنجان ان يكشفوا للناس وجه الحق بين الفريقين قبل ان ينتقلا بالخلاف  الى لغة الحديد والنار  وكل انسان على كوكب الارض  يرفع لواء  ( الحرية)  وهل شهد التاريخ كله حاكما واحدا يعلن عن نفسه انه يحكم لغير الحرية ؟

انه يقتل من اجل الحرية … ويزج فى السجون من اجل الحرية …لكن تعال  فأنظر اليهم  كيف يفهمونها على معان تختلف باختلاف  العصور وباختلاف الشعوب فى العصر الواحد  … تجد عجبا

اننا هنا  لانريد ان نسىء الظن بأحد فكل يحب وطنه واهله الى حد العشق والهيام  ولكن العلة هى فى فهم الناس  للكلمات فواحد يقول ان الحرية اساسا هى حرية الفرد … وهى نفسها الحرية التى جاءت رسالات السماء لتقررها لكل  فرد حيث  يكون مسئولا حقا عما قدمت يداه وهو بين يدى الله يوم النشور… ولكن قوما اّخرين  يتعجبون  اذ هم  لايرون كيف تكون حرية  الا  لكتلة الشعب معجونة كلها عجينة واحدة ؟

ان الحرية عند الاولين هى اّخر الامر ان يعبر المواطن عن نفسه فكرا وعقيدة وسلوكا ولاتقيده فى ذلك الا ضوابط تستهدف فى نهاية المطاف ان يتاح للانسان الحر ان ينعم بذلك التعبير عن ذات نفسه… واما الآخرون فلا يخجلهم ان يقولوها صريحة وهى ان الحرية فى اخر التحليل – هى ان يأمن كل مواطن على رغيف الخبز …

وجاءت معى تلك المقارنات استطرادا طبيعيا فى تلك الجلسة الهادئة التى بدأتها بموقف المناظرة الشعرية التى دارت بين الشاعر والامير  ( ولعله الخليفة ) حول ان يكون صاحب الراى ذا تدبير او ان يكون ذا عزيمة ثم اخذ تعاقب المعانى ينتقل بى من موضوع الى موضوع وكان الرابط بين مختلف الموضوعات التى طرقتها هو اختلاف الناس فى فهم الكلمات  التى يستخدمونها ثم ماهم الا ان ينقلهم الوهم الى الاعتقاد بأنهم انما يختلفون على حقائق الواقع وحقائق الواقع هى هى لكن كلا منهم يريد ان يأخذ جانبا منها دون جانب ويظن مع ذلك انه اخذها جميعا واستوعبها من شتى اطرافها ولبثت خواطرى تلك تنساب بى منى من مجال للحديث الى مجال انسيابا طليقا لايقيده هدف محدد ابتغى الوصول اليه …لكن الله العليم الخبير شاء لى ان يتحول معى ذلك الانسياب الحر الى موقف جاد وحاد وكان ذلك عندما طرق على الباب زائر عاد لتوه من سفر ولا اعرف ماذا كانت مناسبة الحديث التى اصهرت فيها فكرة التطرف الدينى وقد يكون زائرى نفسه هو الذى افتعل ظهورها افتعالا ليقول لى فى شئ من الرعشة العصبية المكشوفة  : لست افهم كلمة التطرف يوصف بها متدين فالمتدين الحق متمسك بدينه لازيادة ولا نقصان …انه انسان يلتزم الخط الدينى وخط الدين خط واحد …والامر بعد ذلك يكون فى افراد الناس هو اما سائر على هذا الخط واما منحرف عنه فأين يكون فى هذه الصورة الواضحة من هو معتدل ومن هو منحرف …

قلت لزائرى قد فاتتك تفرقة مهمة بين طرفين هما ( الدين ) كما هو مثبت فى كتابه المنزل  من جهة و( المتدين ) بذلك الدين من جهة اخرى فبينما الكتاب  (واحد ) فأن المتدنيين به كثيرون … وليس هو من الامور الشاذة فى طبيعة الناس  ان يختلفوا فى طريقة فهمهم  لنص واحد قرأوه وهذا هو ماحدث بالفعل للمسلمين ( كما حدث مثله فى اتباع الديانات الاخرى جميعا ) فالمسلمون متفقون

على الكتاب الكريم  لكنهم مختلفون فى فهمهم لبعض اياته ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة ومن ثم يكون معنى التطرف ياصاحبى هو ان ياخذ المسلم بطريقة معينة فى الفهم او قل بمذهب معين ثم يعلن انه هو وحده الصحيح وقد اخطا الآخرون ولو وقف امره عند هذا الحد لما كان عليه غبار لان المعنى ان ياخذ الانسان بمذهب معين دون سائر المذاهب هو انه رأى الصواب فى جانب المذهب الذى اختاره … لكنه ينقلب  ( متطرفا ) اذا هو اراد ان يحمل الآخرين  بالقوة – كائنة ماكانت صورة القوة –على مشاركته فيما اعتقد .

بدئت حديثى مع الزائر هادىء النبرة  ثم شعرت فى داخلى بالحرارة  تزداد معى شيئا فشيئا  كأنما احسست بأن موضوع التطرف  فى حياتنا اكثر اهمية  واشد خطورة  من ان يؤخذ بهذا الهدوء  فقلت لزائرى – وكان قد هم بالرد على شئ مما قلته  – اسمع يااخى  اننى بحكم فارق السن بينى وبينك – على الاقل- استأذنك فى مواصلة  حديثى لافتح عينيك على  حقيقة المتطرف فى مجال الدين او فى اى جال غير الدين .

اولا – ليس مايؤخذ على المتطرف انه قد اختار لنفسه وجهة نظر يرى الافكار والمواقف من خلالها … لا …فهذه – على العكس – علامة نضج  وكذلك ليس مايؤخذ عليه  انه يحاول اقناع الآخرين بمشاركته فى وجهة نظره لان تلك المحاولة منه انما هى علامة ايمان بصدق ما رأى  لكن الذى يؤخذ عليه حقا هو ارهابه للآخرين  لارغامهم على قبول ما يدعو اليه هو وزمرته … ففى ذلك الارهاب جوهر التطرف  … ولأضرب لك مثلا على ذلك من التاريخ فأنه لما نشبت الحرب بين الامام على – كرم الله وجهه- وبين معاوية على الحق فى امارة المؤمنين لمن تكون  …كان الموقف يتضمن رأيين فى احقية الخلافة اولهما ان آل النبى ( عليه الصلاة والسلام ) احق من غيرهم بها وفى هذه  الحالة تكون الاحقية لعلى – فضلا عن ان عليا قد بويع بالفعل …والرأى الثانى هو احقية الخلافة جائزة لكل ذى اصل عربى  سواء أكان من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ام لم يكن وفى هذه الحالة لم يكن ثمة مايمنع ان ينولها معاوية اذا توافرت له البيعة فلما ثارت فى قلب المعركة مسألة الاحتكام الى الكتاب الكريم فى فض الخلاف بين الفريقين المتحاربين تطورت الاحداث تطورا سريعا ادى الى ان يخرج بعض انصار الامام على – كرم الله وجهه- خروجهم عليه اعتقادا منهم بأنه لم يكن حاسم الرأى فى مسألة الاحتكام الى الكتاب واطلق على هؤلاء المعارضين اسم ( الخوارج) … ولم يلبث هؤلاء الخوارج ان كونوا لأنفسهم وجهة نظر شاملة  كان منها رأى فى احقية الخلافة فلاهم سلموا بأولوية آل البيت فى ذلك الحق دون سواهم ولاهم وافقوا على ان يقصر ذلك الحق على ماكان ذا اصل عربى من بين المسلمين الاكفاء للخلافة وخرجوا برأى ثالث هو ان كل مسلم له حق الحكم مادام ذا قدرة معترف بها دون ان يكون بالضرورة من اصل عربى او ان يكون بالتفصيل من ال البيت فاذا ضممنا هذا الرأى الى غيره من أرائهم  نظرنا اليها فى ذاتها فربما وجدنا وجهة نظر الخوارج خالية  مما يؤخذ عليهم فهى وجهة نظر لاتقل عن سواها  من وجهات النظر … اذن فلماذا نفرت منهم الامة الاسلامية ولاتزال تنفر من مجرد ذكرهم كانت العلة فى تطرفهم بالمعنى الذى اسلفته عن التطرف وهواللجوء الى القسوة العنيفة ارهابا لكل من وقعت عليه ايديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم وان لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وابشعها

ولابد ان نضيف هنا حقيقة عنهم لتكتمل الصورة امام القارئ  وهى انهم كانوا لاينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة ويديمون الصلاة حتى لقد كانوا يعرفون بما تتقرح به جباههم من السجود على حصباء الارض العارية فالخوارج – كما ترى – قد اغضبوا الامة الاسلامية على طول التاريخ الاسلامى كله  لا لمجرد ان لهم وجهة نظر اسلامية خاصة ولا لانهم قصروا فى عبادة الله  بل هم اغضبوها بتطرفهم …حين يكون معنى التطرف لجوء صاحبه الى الارهاب فلا هى الموعظة الحسنة وسيلتهم ولاهى الجدل بالحجة تقارع الحجة ولا هى الحكمة  وتلك الوسائل الثلاث المذكورة فى القرآن الكريم .

ثانيا – اذا كان اتخاذ الارهاب وسيلة لارغام الخصوم  هو العلامة الحاسمة التى تميز المتطرف عمن سواه  : كان محالا ان يلجأ اليه انسان قوى واثق بنفسه وبعقيدته وانما يلجأ اليه من به ضعف فى اى صورة من صوره …لماذا ؟…لان الانسان اذا احس فى نفسه ضعفا تملكه الخوف من ان يطغى عليه اصحاب المواقف الاخرى وكأى خائف ترى المتطرف هلعاً جزوعاً يسرع الى اقرب اداة للهتك بخصمه اذا استطاع قبل ان تتسع الفرصة امام ذلك الخصم وليس هذا النزوع العدوانى  مقصورا على المتطرف فى الدين بل هو نزوع نلحظه فى كل دروب التطرف الاخرى … فأذا احدثت  جماعة انقلابا فى بلدها تولت على اثره مقاليد الحكم فى ذلك البلد ، فأنها على الارجح لاتتريث قبل ان تنزل على من تتوخى فيم المعارضة كل ضروب التنكيل والتعذيب  تخلصا منهم اولا ، ليكونوا عبرة لغيرهم ثانيا .

ثالثا – لايتطرف بالمعنى الذى حددناه للتطرف  الا من ىحمل رأسا فارغا خاويا … اللهم الا اضغاثا دفع بها الى ذلك الرأس عن فهم او عن غير فهم  وذلك  لسببين يأتيان على التعاقب فى خطوتين : فمن جهة اولى  لاتكون الافكار التى شحن بها رأسه علمية بأى معنى من المعانى  اذ  الفكرة العلمية لاهى تتطلب ان يتعصب لها احد بالتطرف فيها ولا الاخذ بما يشعر فى نفسه بأى حافز يحفزه الى ذلك … لانها مادامت فكرة علمية فهى مقطوع بصوابها من ناحية وخالية من اىة شحنة انفعالية من ناحية اخرى …. وهنا ننتقل الى الخطوة الثانية وهى ان ما يمتلئ به رأس المتطرف مادام لايمت الى العلم بصلة فلابد – اذن- ان يكون فيه الخصائص المضادة لخصائص العلم ومنها حرارة الانفعال وغموض المعنى واحتمال ان  تتعدد فيها وجهات النظر فى فهمها وتأويلها واغتراف جانب من جوانبها مع اهمال الجوانب الاخرى .

وهذه الخصائص كلها لاغبار عليها اذا كان رأس حاويها فيه القدرة الناقدة  وموضوعية النظر بحيث اذا تقدم اليه ناقد بنقد شئ مما فى رأسه ، لم يقابله بالثورة الغاضبة وبالتهديد بالقتل او بالضرب …بل انصت الى نقده بعقل مفتوح  …ومادمنا قد حددنا معنى التمرد باقترانه بالارهاب الاهوج تحتم ان يكون رأس المتطرف قد خلا من الضوابط التى تمكنه من مخالفة الآخرين لوجهة نظره .

رابعا – لقد تساهلنا فيما اسلفناه حين جعلنا التطرف فى اى مجال وجهة نظر … لان من كانت له وجهة  للنظر ثبت عليها ورأى كل شئ من خلالها … لكن المتطرف فى حقيقته الدفينة ( حالة  ) من حالات التكوين النفسى  تجعل صاحبها معداً ان يتطرف وكفى  … فليس المهم  هو الموضوع الذى

يتطرف فيه بل المهم فى تكوينه هو ان يتطرف للتطرف فى حد ذاته … ومن هنا رأينا امثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة  من تطرف فى فكرة الى تطرف فى الفكرة التى تناقضها …فنراه اليوم – مثلا –  متطرفا فى رؤيى اسلامية معينة  ثم نراه غدا متطرفا  فى رؤية شيوعية …مع ان الاسلام والشيوعية ضدان لايلتقيان  .

ان المريض بالتطرف لايعرف  وهو بالتالى لايعترف بأنه مريض شأنه  فى ذلك شأن المرضى بسائر الامراض النفسية واذا كاشفت المتطرف الدينى مثلا بحقيقة حالته اجابك بانه يسير على الخط الدينى  …فماذا يعنى التطرف فيمن يتمسك بدينه ويلتزم اوامره ونواهيه ؟

قال زائرى : هذه اشارة الى ماقلته لك عن نفسى فى اول الحديث  نعم  اننى ملتزم خط الدين وفق ما تعلمت وما علمت بانه الدين الصحيح  فقل لى ماذا تريد ان افعل  ؟

قلت : لا اريد لك ان تغير من امر نفسك شىئا الا ان تتذكر كلما رأيت احدا يلتزم دينه  مع اختلاف فى التفصيلات  :الرؤية والفهم والتأويل بأنه هو الآخر يمارس دينه كما تعلم وعلم بأنه الدين الصحيح فأما تركته وشأنه وضميره واما دخلتما معا فى حوار هادئ منتج امين .


حوار – محمود القيعي 
الاهرام فى 10 فبراير 2015
نوال السعداوى
انتقدت الكاتبة نوال السعداوي غالبية نقاد الأدب بسبب عدم امتلاكهم الفكر الثائر ، ووصفت كتاباتهم بأنها تدور في فلك النظريات النقدية التقليدية. وأضافت السعداوي، في حوارها مع »الأهرام«, أن فكرها الثوري ساعدها علي كتابة الأدب الثائر ، نافية مقولة إن نوال المفكرة ظلمت نوال الأديبة.

نوال السعداوي, التي يصل عدد مؤلفاتها إلي 56 مؤلّفا ترجم بعضها إلي 40 لغة, تري أن مجتمعنا يشهد ردة تعليمية وثقافية ، ولكنها علي يقين بأن أهداف ثورة 25 يناير ستنتصر عاجلا أم آجلا . في السطور التالية حوار معها ، لن نعدم فيه كما هي دائما صراحتها وجرأتها التي يرضي عنها قوم ، ويسخر منها آخرون .

هل ظلمت نوال المفكرة الثائرة نوال الأديبة ؟

لا لم يحدث هذا، إنها إشاعة كاذبة ، يطلقها بعض نقاد الأدب الموظفين في الحكومات المتعاقبة منذ نصف قرن وأكثر، منذ أن كتبت نقدي الفكري لهذه الحكومات ، التي جرت علي مصر التبعية الخارجية والخراب والفقر والبطالة والدجل والخزعبلات وتحجيب الأطفال البنات تحت اسم الدين والفضيلة,وأتت بالانفتاح والديمقراطية المزيفة وغيرها من المهازل والمآسي. الفكر الثائر يخدم الأدب الثائر, وقد ساعدني علي أن أكتب أدبا ثائرا ،لكن أغلب النقاد والناقدات في بلادنا لا يملكون الفكر الثائر الذي يساعدهم علي النقد الأدبي الثائر الجديد, بل يدورون في فلك النظريات النقدية التقليدية.

متي تتحول الرواية من خطاب أدبي إلي خطاب سياسي أو ايديولوجي؟ ومتي يكون الروائي أصدق من المؤرخ؟

الرواية التي تؤثر في عقول وقلوب الناس هي عمل كلي عضوي متكامل الأجزاء ، لا انفصال فيه بين ما هو سياسي أو فكري أو أدبي أو طبي أو اجتماعي أو فلسفي أو إيديولوجي .. الخ. والروائي أو الروائية الصادقة الشجاعة أكثر وعيا وعلما ، وأوسع أفقا ، من المؤرخين والعلماء والفلاسفة والأطباء, وغيرهم من ذوي التخصصات الدقيقة. ليس هناك فاصل بين العلم والفن, أو الطب والأدب, أو السياسة أو الإيديولوجية والفن. هذه الفواصل كلها من موروثات العبودية والفكر التقليدي. الرواية المبدعة الجديدة تتجاوز هذه الفواصل المزيفة.

لماذا اخترت اسم «زينة» عنوانا لآخر رواياتك برغم تعدد بطلاتها ؟

ولماذا اخترت النهاية المأساوية لبطلتيها؟ أهو الاعتراف بالفشل في تغيير الواقع ؟

الكاتبة أو الكاتب يختار اسم بطل أو بطلة الرواية كما يشاء ، كما أن زينة هي أكثر الشخصيات بطولة وحضورا في روايتي هذه.

والنهاية المأساوية لا تعني الفشل ، بل العكس صحيح أحيانا ، وكثيرا ما تقتل أو تموت البطلة أو البطل لكن القضية تظل حية ، لا تموت القضية بل تعيش أكثر وأكثر.

كيف ترين حركات تحرير المرأة منذ قاسم أمين وحتي الآن ؟ ما لها وما عليها ؟

هناك نساء سبقن قاسم أمين في تحرير المرأة المصرية ، لكن قاسم أمين برز في التاريخ الطبقي الأبوي وتم تجاهل النساء من مثيلات زينب فواز وغيرها من الرائدات. وأنا متفائلة بطبيعتي ، فالأمل قوة دافعة للعمل والإبداع ، أري المستقبل أفضل من الحاضر والماضي ، وإن كنت أشهد الردة التعليمية والثقافية المستمرة في بلادنا ، وعودة المرأة المصرية الي الوراء في أغلب المجالات العامة ، وفي المجال الخاص العائلي ، إلا أن هذه الردة مؤقتة وسوف تتحقق أهداف ثورة يناير 2011 في المستقبل القريب أو البعيد.

كيف تنظرين إلي الجوائز الأدبية؟ وهل تبرّئينها من الهوي ؟

الجوائز الأدبية تخضع للقوي السياسية الاقتصادية الأبوية الطبقية عالميا ومحليا ، بما فيها جائزة نوبل وجوائز الدولة المصرية في كل عام. أعظم الأدباء والأديبات في بلادنا والعالم لم يحصلوا علي جوائز ، بل تم حبسهم ونفيهم وإقصاؤهم عن القراء والقارئات ، وتشويه سمعتهم بواسطة الإعلام الحكومي والإعلام الخاص المملوك لرجال الأعمال والتجار في السوق الحرة والبورصات.

الإعلام يخفض أدباء ويرفع آخرين .. من تعوّلين عليه في إنصاف المواهب الأدبية الحقيقية ؟

الإعلام تملكه الحكومات أو رجال المال ،وهو يزيف الحقائق في كل المجالات ، وليس في المجال الأدبي فقط ، فهو يخدم القوي السياسية والاقتصادية. ،انظر الي من يحصلون علي الجوائز في كل عهد! لكن المبدع أو المبدعة لا يحتاج الي جوائز. عن نفسي, جائزتي الوحيدة هي رسائل القراء والقارئات ، وتقديرهم لأعمالي في بلادنا والعالم ، ولا أنتظر تقدير الدول أو الحكومات أو أصحاب البلايين.

ذكرياتك مع هؤلاء: يوسف ادريس ، العقاد ، طه حسين ، بنت الشاطئ.

لم أقابل العقاد شخصيا ، ولا طه حسين ، لكني احترمت كتاباتهما ، رغم اختلافي مع العقاد فكريا ، وأعجبني أدب طه حسين ، خاصة سيرته الذاتية ، اختلفت مع بنت الشاطيء في أفكارها ، لكني احترمت نضالها من أجل أن تكتب ، أما يوسف إدريس فكان زميلي في مجال الطب والأدب ، وقد اختلفت مع الكثير من أفكاره أيضا ، رغم إعجابي بأجزاء من أدبه وفنه القصصي .

متي تبكي نوال السعداوي؟ ومتي تغضب ؟

لا أبكي إلا في لحظات الفرح العظيم ، تنهمر دموعي الحبيسة منذ الطفولة ، لا أبكي في لحظات الحزن أو الألم ، بل أفكر وأتأمل, وأسيطر علي الغضب. لقد تعودت أن أكون سيدة نفسي وعقلي منذ الطفولة ، وتعودت أن أحول طاقة الغضب الي عمل مبدع ، وأحول التجربة السلبية الي إيجابية ، وكانت الكتابة هي الوحيدة التي تحميني من الغضب الشديد إلي حد اقتراف جريمة قتل!


التضخم السكاني وضعف وسائل الرقابة وانتشار ظاهرة الرشوة... عوامل أدت إلى تفاقم ظاهرة البناءات غير القانونية في مصر وتحولها إلى إشكالية تكاد تستعصي على الحل. (Null)

التضخم السكاني وضعف وسائل الرقابة وانتشار ظاهرة الرشوة… عوامل أدت إلى تفاقم ظاهرة البناءات غير القانونية في مصر وتحولها إلى إشكالية تكاد تستعصي على الحل

تمثل مشكلة هدم المباني القديمة والعقارات الآيلة للسقوط، صداعا مزمنا في رأس كل الحكومات والأنظمة التي توالت على حُكم مصر، منذ أكثر من ستة عقود، لدرجة أن خبَر سقوط عقار على رأس ساكنيه ووفاة بعض السكان وإصابة البعض الآخر وقيام أجهزة الحماية المدنية بالبحث عن مفقودين تحت الأنقاض، لم يعُد مُزعِجا ولا يمثل كارثة حقيقية، سوى على أهل العقار المهدوم، الذين تعوِّضهم الحكومة بخمسة آلاف جنيه عن المتوفي وألف جنيه عن كل مصاب!!

وفي محاولة للوقوف على حجم المشكلة ومناقشة أسبابها الحقيقية واستعراض الحلول المقترحة، التقت swissinfo.ch أحد الخبراء الفنيين المتخصِّصين في التخطيط وكاتبا صحفيا ومحللا سياسيا مُهتَما بهذا الملف، وأحد رجال الأعمال من ملاّك العقارات، المتَّهمين بـ “الجشع والرّغبة في الثراء السريع”، ولو على حساب أرواح المواطنين، فكان هذا التقرير…

مشروع الرّقم القومي للعقار

في البداية؛ أوضح الخبير الفنّي المهندس محمد سامي فرج، أن “النقطة الأساسية في الخطة العلمية التي يجب أن نتّجه إليها لحل هذه المشكلة المُزمنة، تتلخَّص في مشروع الرقم القومي للعقار والمُدوَّن فيه كل بيانات العقار من تاريخ إنشائه، ومواصفاته وأعمال الترميمات التي تمّت عليه وسجل الصيانة المُرتبِط به… إلخ، كل هذا يجب أن يكون متوافرا في قاعدة معلومات قومية ضخمة لجميع العقارات الموجودة على مستوى الجمهورية”.

وقال فرج – الخبير في التخطيط ونظم المعلومات في تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch: “من خلال هذه القاعدة المعلوماتية، يتم توجيه فِرق هندسية لمُعاينة العقارات وكتابة تقرير فنّي عن حالة كلِّ عقار على حِدة، وِفق الوضع الحالي، ومن ثَـمّ وضْع علامات حمراء على العقارات الخطِرة وعلامات صفراء على العقارات التي تحتاج إلى صيانة أو أعمال ترميم، وعلامات خضراء على العقارات الآمنة”؛ مشيرا إلى الحاجة المُلحَّة إلى “خطّة قومية عاجلة لبناء هذه القاعدة المعلوماتية، التي ستكون الأساس العِلمي نحو حلّ هذه المشكلة القديمة الحديثة”.

وعن رؤيته للأسباب الحقيقية وراء هذه الكارثة المُخيفة التي تودي بأرواح آلاف المصريين سنويا، يرى فرج – مدير مركز دعم المبادرات السياسية والتنموية، أنه يمكن حصرها في النقاط التالية: “البناء العشوائي دون الإلتزام بالمواصفات الهندسية؛ غياب الإشراف والرَّقابة من المهندسين المتخصِّصين على أعمال التصميم والتنفيذ، انعدام الصيانة الدورية للمباني، تدهْـوُر حالة المرافق من مياه وصرف صحي، وهو ما يؤثر بالسَّلب على صِحة المبنى، سوء استخدام العقارات في غير الغرض السّكني، إهمال المسؤولين في المحليات للدّور المنوط بهم، فضلاً عن التكدّس السكاني في العقارات”.

بناء قاعدة معلومات هندسية

في السياق، كشف المهندس سامي فرج، عن أن “هناك أمورا خاصة بقانون الإيجار القديم، وصعوبة هدم العقار وبناء غيره، لأن السكان أصبحوا ملاكا وفقا للقانون الفاسد الخاص بتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، فلا يستطيع المالك إخلاء العقار ليبني بدلاً منه عقارا جديدا، ويدخل هذا تحت بنْـد الإحلال للمباني التي لا تصلح معها أعمال الصيانة، ويجب إخلاء العقار من ساكنيه فورا، تمهيدا لهدمه وبناء مبنى آخر مكانه، على أسُس سَليمة، ووفقا للمواصفات والاشتراطات الهندسية الواجب توافُـرها”.

وحول إمكانية استخدام والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في حلّ مشكلة المباني الآيلة للسقوط؛ أوضح الخبير في التخطيط ونُظم المعلومات، أن “بناء قاعدة المعلومات الهندسية للعقارات، هي أول خطوة، ومن خلالها يُمكن متابعة العقارات وتقدير أحوالها وتسجيل الملاحظات وأعمال الصيانة أولاً بأول”؛ مشيرا إلى أنه “يمكن استخدام نُظم المعلومات الجغرافية لتلْوين العقارات التي تحتاج إلى صيانة، ووضْع خرائط تفصيلية للتّخطيط ومعالجة القنبلة الموقوتة المسماة بالعشوائيات”.

العقارات الآيلة للسقوط.. معلومات وأرقام

* أكدت دراسة بجامعة القاهرة أن 90% من عقارات مصر مخالفة وأن 50% من تلك العقارات تحتاج للصيانة؛ بينما نعيش على قنبلة موقوتة اسمها العقارات الآيلة للسقوط، وفي محافظات الجمهورية 2 مليون عقار آيل للسقوط و132 ألف قرار إزالة مجمَّدة.

* عقارات الخطورة الداهمة في حي وسط القاهرة، تضم مناطق الحسين والجمالية والدرب الأحمر والحمزاوي والأزهر والباطنية وباب الخلق، وهي تلك المناطق التي تشكل مصر الفاطمية، وتضم 38 ألف عقار، منها عقارات أثرية يقع أسفلها 55 ألف محل تمثل ثروة لسكانه وشاغليه، وهي أقدم عقارات أحياء القاهرة؛ حيث مرَّ على معظمها أكثر من 150 عاما، وصنف منها 433 عقارا تحت بند الخطورة الشديدة.

* في تقرير لمحافظة القاهرة؛ احتلت أحياء وسط القاهرة النصيب الأكبر من قرارات الإزالة بعدد 2700 عقار، فيما بلغ إجمالي القرارات بالمحافظة 8800 عقار، وتلتها أحياء المنطقة الجنوبية 2500 عقار؛ حيث المناطق الشعبية بالسيدة زينب والخليفة ومصر القديمة، التي تشكِّل نسيج وروح القاهرة الشعبية، ثم 2000 عقار في أحياء المنطقة الشمالية شبرا والساحل وروض الفرج والزاوية والشرابية وحدائق القبة والزيتون.

* أكدت دراسة لوزارة الإسكان، أن الفساد فى المحليات أهم أسباب انهيار العقارات، وأن 10% من الثروة العقارية مهددة بالانهيار، و50 مليار دولار مهددة بالضياع، و50% من العقارات لم تجر صيانتها منذ إنشائها، و200 ألف قرار تنكس وإزالة لم تنفذ بسبب الرشاوى.

* تحتل القاهرة الكبرى المركز الأول فى العقارات الآيلة للسقوط، و40% من أحيائها بحاجة ماسة إلى إعادة تجديدها، ومحافظة الإسكندرية أصدرت 57 ألف قرار إزالة لم يتم تنفيذها، ومحافظة أسيوط تحتل المرتبة الأولى فى عدد المخالفات.

* أكثر من 90% من العاملين بالإدارات الهندسية، الموجودة فى 27 محافظة، و186 مركزًا، و92 حيًا، و1411 وحدة محلية، و214 مدينة، غير متخصصين، فهم من حملة المؤهلات المتوسطة، وهم المسؤولون عن قرارات الإزالة وتحصيل رسوم المخالفات.

* تكشف الإحصائيات الصادرة عن وزارة التنمية المحلية، أن إجمالي عدد قرارات الهدم الصادرة لمبان على مستوى الجمهورية بلغ 111 ألفًا و875 قراراً، تم تنفيذ 69 ألفاً منها، و648 قراراً مطعون عليها أمام القضاء، وصدرت أحكام نهائية بشأن 9527 قراراً.

* تمثل حالات الخطورة الداهمة، والمهددة بالانهيار 1838 مبنى، في حين بلغ عدد قرارات الترميم 98 ألفًا و392 قراراً، تم تنفيذ 39 ألفاً و97 قراراً منها، بنسبة 40% تقريبا.

* حدد تقرير صندوق تطوير العشوائيات 189 مدينة بها عشوائيات، تم حصر 304 مناطق غير آمنة، منها 31 منطقة خطيرة يجب هدمها، و186 منطقة خطيرة بدرجة أقل، وهي عشش متهدمة، و 54 منطقة خطيرة بدرجة ثالثة.

الفساد هو المسؤول الأول!

من جهته، اعتبر الكاتب والمحلل السياسي محمد جمال عرفة، أن “الفساد بكافة أشكاله (الرشوة/ المحسوبية/ المجاملات/ الغش/…إلخ) هو المسؤول الأول عن كارثة سقوط مئات المنازل فوق أصحابها في مصر سنويا، متعجبا من أنه “لا أحد يُعاقَب من هؤلاء المسؤولين الفاسدين، وإنما يُحال دائما مالك العقار المُنهار وحده للمُحاكمة، دون أن يُحَاسَب المسؤول الذي سمح بتمرير هذه المُخالفة والسكوت عليها حتى حدثت المُصيبة وانهار العقار ومات مَن مات وفُقِد من فُـقِـد وأصيب مَـن أصيب”.

وقال عرفة؛ المهتم بهذا الملف، في تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch: “هناك ما يمكن تسميته بـ “الرواتب المُوازية” على غِرار “الإقتصاد الموازي” أو “السوق السوداء”، يعتمد خلاله عددٌ كبير من موظفي المحليات والإسكان على رواتب في صورة رشاوى من أصحاب المنازل المخالِفة للبناء، ولا يُمكنهم التخلّي عنه، لأنه أعلى من رواتبهم الحكومية عشرات المرّات، وهذا هو سِرّ تقاعُسِهم عن تنفيذ القانون، ومن ثَـمَّ وقوع الكوارث”.

وأوضح أن “المُشكلة تعود إلى تراكُم الفساد لسنوات طويلة. ففي عهد مبارك استمرّ الفساد 30 عاما وتَـجذَّر حتى أصبح أمرا واقعا. وعلى الرغم من صدور عشرات التقارير الرسمية التي تُعتبَـر كارثية، لا يتحرّك أحد، إذ تسجل إحصائيات وزارة الإسكان أن عدد المباني في مصر نحو 9.4 مليون مبنى، منها 102 ألف مبنى لا تتوفّر فيها اشتراطات الصيانة”.

مطلوب ثورة إصلاحية شاملة

وأشار عرفة إلى أن “الأخطر، هو وجود مليوني مبنى آيل للسقوط في مصر. وقد صدرت لها قرارات تنكيس لم تُـنفَّـذ، رغم العِلم بأن استمرارها بالشكل الحالي، يمثل تهديدا حقيقيا لأرواح المواطنين. وأبسَط دليل على ذلك، ما شهدته مصر في عام 1992، حينما أدّى الزلزال إلى انهيار 627 مبنىً، دون أن يحرِّك المسؤولون في البلاد وقتها ساكِـنا، ولا تزال المشكلة قائمة دون أن يستشعر المسؤولون خطورة الأمر وحجم المأساة التي يمكن أن تقع”.

وكشف الكاتب الصحفي عن أن “الحلّ لا يجب أن يكون وقتيا بعقاب مسؤول في المحليات وقت وقوع الحادث لامتصاص غضب المواطنين، وبعدها تعود حليمة لعادتها القديمة، وتستمر التجاوُزات كما هي”؛ مطالبا بـ “حلٍّ شامل لهذه المشكلة المُزمنة، يبدأ من رأس النظام وحتى أخمص قدميْه، في صورة أصغر مسؤول محلّي. فلو صلح “الرأس” صلح الجسد، ولو أظهرت القيادات الكُبرى “القدوة الإيجابية” التي غابت، لطال الإصلاح كافة أطراف الجسد”.

واختتم عرفة بقوله: “هذا ما حاوَ لَت أن تفعله ثورة 25 يناير، لكن ما تبِعها من عودة رموز النظام القديم، كان أكبر دليل على تجذر ورسوخ هذا البناء الفاسد ودفاعه المميت عن مصالحه ونفوذه المالي والسُّلطوي”؛ معتبرا أن “الأمر يحتاج إلى ثورة إصلاحية شامِلة، تبدأ بالإصلاح السياسي، ثم تنسحِب على كل المجالات الأخرى، فتُنهي هذا الفساد وتقتلع شجرته وتقضي عليه، وبدون هذا، ستستمر الأزمة كما هي، دون إصلاح حقيقي”.

تجرِبة قاسية يرويها أحد ملاّك العقارات

وفي محاولة لاستطلاع رأي الملاّك وأصحاب العقارات؛ يقول (م. ع) – أحد ملاّك العقارات بمحافظة الجيزة: المُشكلة لها أكثر من شق، وبالنسبة لرجال الأعمال وملاك العقارات، فالأمر صعب للغاية، وحتى تتّضح الصورة، سأحكي لكم إحدى قصص وتجاربي الشخصية مع هذه المشكلة. فعندما عُدت من المملكة العربية السعودية بعد رحلة عمل وغُربة امتدت لأكثر من 16 عاما، فكّرت أن أستثمِر أموالي التي جمعتها خلال تلك السنين، واهتديت إلى فِكرة بناء مجموعة من الأبراج وبيعها كشُقق تمليك بأسْعار معقولة، تُحقّق لي فائض ربح جيد وتساهم نوعا في حل مشكلة السَّكن بالنسبة للشباب”.

ويًواصل حكايته قائلاً: “أحد الأبراج التي قُمت ببنائها، اشتريت قِطعة الأرض التي بنيْت البرج فوقها بنصف مليون جنيه مصري، وعندما ذهبت للحصول على رُخصة البناء، فوجئت أن الرخصة بأربعة أدوار فقط، وهذا يعني أنني لا أستطيع بناء سوى 8 شُقق فقط، حيث أن كل دور يتكوّن من شقّتين، وعندما جلست لأحسب تكلفة بناء العمارة وأضفت إليها ثمن قطعة الأرض وتكاليف وأجور الرخص وتركيب المرافق الأساسية، من مياه وكهرباء، إضافة إلى السلالم والمصعد الكهربائي… إلخ، وجدت أن العملية خسرانة، وأنني بعد دفع كل هذه المبالغ والانتظار حتى أتمكن من بيع الشقق، لن أستطيع جمع ما دفعته في العملية”.

كل دور مخالف برشوة 10 آلاف جنيه!

ويتابع بقوله: “لا أخفي عليك، فقد قررت أن ألغي الفكرة من أساسها وأن أبقي على أموالي في البنك وأن اكتفي بالعائد أو الريع الشهري لهذا المبلغ، غير أنني وجدت أحد المهندسين بإدارة الرُّخص، بالحي التابع له، يتّصل بي ويطلب مقابلتي، وعندما جلست معه، أخبرني بأنه يُمكنني بناء 11 دورا وعدم الاكتفاء بالأدوار الأربعة المسموح بها في الرّخصة، شريطة أن أدفع عن كلّ دور مخالف 10 آلاف جنيه، مقابل سكوت الحي وغضّ الطرف عن المخالفات. والغريب، أنني اكتشفت أن أكثر من 90% من الأبراج الجدية التي تم بناؤها خلال الـ 30 سنة الأخيرة، مخالفة، وأن المسؤولين يعلمون ذلك جيدا، لكنهم لا يحرِّكون ساكنا”.

واستطرد يقول: “تخيّل أن عقارا مكون من 11 دورا، يحتوي على 22 شقة، وهو لم يحصل على رُخصة سوى لبناء 4 أدوار، بإجمالي 8 شقق، وهو ما يعني أن هناك 7 أدوار تشتمل على 14 شقة مبنية بالمخالفة للقانون والمواصفات الهندسية، وأنا كمالك للعقار، لا أملك إلا الموافقة على ذلك لأستطيع استعادة ما دفعته من مال مع هامش ربح معقول”؛ مختتما حديثه قائلاً: “لسْنا نحن السبب، المسؤول هو القانون الأعمى وأسعار الأراضي والحديد والإسمنت ومواد البناء، فضلاً عن الموظفين المُرتشين، الصغار والكبار… الموضوع كبير ويحتاج إلى إرادة سياسية، وتعاون جهات كثيرة لحلّ هذه المشكلة المزمنة”.

بقلم همام سرحان – القاهرة .


رأس الحكمة مخافة اللهdownload

عن الحرية المسئولة اتحدث

 

بقلم المفكر  الدكتور ذكى نجيب محمود

 

الاهرام فى 19/11/1984 وليس فى 27/12/2014

 

لااظننى كنت قد جاوزت الثانية عشرة حين وقعت عينى على هذه العبارة ( رأس الحكمة مخافة الله) فقد رأيتها اول مارأيتها فى كراسة الخط العربى حيث تخصص لها كراسات توزع علينا كُتب فى الطرف الاعلى من كل صفحة فيها نموذج مطبوع ليحاول التلاميذ محاكاة ذلك النموذج فيما بقى من بياض الصفحة وقد يوضع احيانا على السطر التالى للنموذج مثيل له مطبوع بالنقط الخفيفة ليسير التلميذ على ذلك المثيل المنقوط لكى تعتدل يده بعض الشئ قبل ان يستقل بذاته فى الصفحات التالية واظن ان هذا كله لم يعد له وجود فى المدارس وتركت اصابع التلاميذ لتعتدل فى الخط او لتعوج وفق ما تشاء لها المصادفات وربما كنت مخطئا فى ظنى هذا فلست ادرى على وجه اليقين ماذا هناك؟

 

كانت عبارة رأس الحكمة مخافة الله هى احد النماذج التى اجريت قلمى لأحاكيها فى درس الخط فوعتها الذاكرة منذ تلك السن الباكرة لكن كم وعى العقل من معناها عندئذ ياترى ؟لا احسبه قد وعى الاقطرة يسيرة من الاناء الملىء فما اكثر ما حفظت ذاكرات الصغار مما حفظوه ولكنها فى ذلك لم تكن قد  حفظت الا رنين الالفاظ ثم تجئ الايام بعد ذلك مترعة بخبراتها هذه خبرة قد ملئت النفس بالحسرة والاسى وتلك خبرة اخرى قد هزت النفس بالنشوة والفرح وهكذا تتوالى الخبرات مع الانسان الواحد بالنسبة الى اللفظ الواحد حتى يصبح ذلك اللفظ مع مر الزمن وكأنه الوعاء قد امتلأ جوفه بأطياف المعنى وظلاله وهذا هو مايجعل اللغة كأنا حيا كأى كائن حى لانها تنمو- او تذبل – بحسب غرارة او- ضحالة –الخبرة عند المتكلمين بها ثم كان ذلك هو نفسه الذى جعل الترجمة من لغة الى لغة اخرى ترجمة تصون المعنى المنقول بكل امتلائه ضربا من المحال اللهم الا فى مجال العلوم ذات المصطلح العلمى المحدد الدقيق .

لا بالطبع لم اكن قد ادركت من عبارة ( رأس الحكمة مخافة الله) عندما صادفتنى لاول مرة فى كراسة الخط وانا فى نحو الثانية عشرة من عمرى الا رنين لفظها وان لفظها لذو رنين لم يزل حتى هذه الساعة يهز نفسى بحلاوته ، ثم جاءت اعوام الزمن تتوالى عشرات بعد عشرات وكثرت فيها المواقف التى تستوجب ان يستحضر الانسان فيها ضرورة ان يخشى الله فيما يقوله وما يعمله وان يخشاه فى ما لم يقله ولم يفعله فى حين كان الواجب الخلقى يستلزم ان يقال او يعمل ، فكنت فى كثير من تلك المواقف اجد صديقتى القديمة اعنى تلك العبارة الجميلة فى جرسها –الغزيرة فى معانيها قد وثبت الى الذاكرة من تلقاء نفسها وكانت – بالطبع – كلما حضرت ازدادت بالموقف الحى الجديد وضوحا .

ولعل اول مايتبادر الى الذهن من معانى ( مخافة الله) هو خوف الانسان من عذاب النار اذ هو اقترف اثما ولهذا وجب عليه الحرص فلا تذل قدماه فى خطيئة لينجو بنفسه من عذاب اليم وواضح انه كلما اوشك الانسان فى موقف ما ان يزل الى خطيئة فأحس خشية الله فأمتنع عن اقراف الاثم ازدادت حاسة الفضيلة عنده ارهافا حتى يجئ له اليوم الذى يصبح الحكم الخلقى الصحيح عنده عادة مألوفة وكأنها جذء من طبعه الفطرى الذى ولد مزودا به وتلك هى ( الحكمة ) بل ذلك هو رأسها ……..

 

وتمضى بى الايام وتكثر فى طريقى مواقف الحياة وازداد بكل ذلك خبرة لا اقتصر فيها على ماقد اكتسبته من حياتى العملية اكتسابا مباشرا بل اضيف اليها ماقد يكون اهم منها واغنى وهو ما اقرأعنه من خبرات الآخرين ومن بين هؤلاء الآخرين من هو صاحب موهبة تعلو به فترفعه – فى هذا الصدد فوق رؤس البشر من عامة الناس بل ومن الصفوة المصطفاة من هؤلاء العامة ، فلقد صادفت من هؤلاء العمالقة الجبابرة الذين انعم عليهم ربهم بحاسة خلقية تطير بهم الى الحكمة فى اعلى زراها بلمعة من لمعات البصيرة الصافية النافذة الى الحق فى صميم جوهره ومن هؤلاء من قرأت له وهو يعوذ بربه من ضعف فى نفسه قد يميل به نحو ان يفعل الفضيلة ابتغاء ثواب الآخرة – او اجتنابا لعذابها- فالفضيلة عند هؤلاء هى الفضيلة واجبة الاداء فى ذاتها قبل ان يكون لها جزاؤها ، نعم ، ان ثواب الآخرة وعقابها حق لاجدال فيه لكنه حق يضاف الى حق آخر وهو ان الفضيلة خير فى ذاتها وان الرزيلة شر فى ذاتها – ولذلك كان فعل الفضيلة يحمل ثوابه فيه وفعل الرزيلة يحمل عقابه فيه ثم يضاف الى ذلك الثواب ثواب الآخرة والى ذلك العقاب عقاب الآخرة ، يمكن توضيح ذلك بمثل هو ان ينجح ولدك فى الامتحان فينتج عن نجاحه نقله الى فرقة أعلى ثم تزيده انت فتكافئه على نجاحه ذلك ، او يرسب فينتج عن رسوبه حرمانه من النقل الى فرقة أعلى ثم تجئ انت فتضيف على ذلك الحرمان حرمانا آخر من عندك .

مخافة الله تصنع من صاحبها ذا حكمة اى تجعله ذا قدرة تلقائية على تمييز الحق من الباطل بلمحة مباشرة او قل انها فى هذه الحالة لمعة تلمع بها البصائر وذلك هو نفسه مانعنيه بكلمة – الضمير –فضمير الانسان –كما هو واضح من اسمه- قوة مضمرة فى جوفه يفرق بها بين الصواب والخطأ فحتى الذى يرتكب الخطأ فى سلوكه يعلم فى دخيلة نفسه انه ارتكب خطأ فليس التمييز بين الصحيح والفاسد فى امور الأخلاق شيئا يحتاج الى علم غزير لمعرفته بل هو مرهون بتربية تبث فى الناشئ خشية الله كلما هم بفعل لايجوز اداؤه وسواء وقف الانسان من تلك الخشية عند الرغبة فى ثواب الجنة والرهبة من عذاب النار او اضاف الى ذلك شعوراً هو ان الصالح ثوابه فيه والفاسد عقابه فيه ففى كلتا الحالتين يتحقق للانسان مرشد باطنى هو ( الضمير ) ولكنه فى الحالة الثانية يكون اقوى حياةً وافعل اثراً منه فى الحالة الاولى انه فى الانسان يشبه ان تكون دفة السفينة خافية عن الابصار لكنها موجودة تحرك السفينة الى حيث تتحرك وتلك الدفة الخافية فى تركيب الانسان هى  (حكمته) التى تتولد فى نفسه خشية ربه كلما وسوس له ضعف نفسه ان يقترف اثما ومن الاثم ان يسكت عن الحق حتى يغمره الباطل بظلامه .

ودفة الانسان تلك ليست من خشب ولامن حديد بل هى مجموعة معايير بثت فى نفسه يقيس بها السلوك الواجب ازاء كل موقف يعرض له فى الطريق ، انها مجموعة مبادئ وهى مبادئ – لحسن الحظ – لايكاد يختلف فيها انسان عن انسان مهما اختلفا بعد ذلك علما وثقافة بل مهما اختلفت بينهم العقائد ذاتها …ان الظالم لايعلن فى الناس انه ظالم – بل يسمى ظلمه عدلا – لعلمه ان العدل هو مبدأ من تلك المبادئ .

انظر الى جماعة اللصوص ( فى قصة سرفاتيز ) حين اختلف بعضهم مع بعض على تقسيم ما سرقوه فنادوا عابر سبيل وطلبوا منه ان يقسم ما معهم بينهم بالعدل انهم لصوص ومع ذلك بحثوا عن  (العدل ) .

ومن تلك المبادئ الانسانية التى لم يختلف عليها احد مع احد مبدأ ان يكون الانسان ( حراً ) وحتى لو ابت على بعض الناس نفوسهم الخسيسة ان يعيشوا احراراً ، فأنك لتراهم على علم بأن حرية الانسان هى مبدا يوجبه الضمير ، لكنهم قد يعتذرون عما يسود حياتهم من طغيان بقولهم انها الضرورات العملية هى التى قضت بكبت الحرية  ( مؤقتاً ) الى ان يستتب الامن وتستقر الامور  او هم يعتذرون بأى عذر آخر من هذا القبيل لكن احداً من الناس لايجرؤ على ان ينكر حق الحرية على الناس لانه حق فرضته الديانات اولاً ونادت به التشريعات البشرية ثانيا وحتى اذا رأيت فى العقائد والتشريعات ماقد يبدو انعداما للحرية بمعناها المعروف فيكون المضمر فى ثنايا الموقف ان ماهو قائم ليس هو المثل الاعلى وان ذلك المثل الاعلى سيتحقق للانسان عندما يصبح الانسان كفؤا له قادراً على حمل تبعاته .

وللحرية صور كثيرة  : الحرية الشخصية وحرية العقيدة والحرية السياسية وحرية الفن وغير ذلك لكننا نقصر هذا الحديث على حرية الفكر وهى حرية كغيرها من ضروب الحرية – لابد لها – بحكم طبيعتها –ان تتقيد بشروط العقل نفسه ومن اهمها ان العقل لايستطيع ان يتحرك فى طريق استدلاله من فراغ ، اعنى من لاشئ اذ لامناص له حين يستدل من ان يجد الاصل الذى يستدل منه وهذا الاصل يتغير فى نوعه وطبيعته من موضوع الى موضوع … فهنالك المجال الذى تكون نقطة الارتكاز فيه فروضا وضعت على سبيل الافتراض بأنها ربما تولدت منها نتائج صالحة للتطبيق  وهنالك المجال الذى يبدأ الباحث رحلته من نص مكتوب ، وهكذا وهكذا ،وايا ماكان الاصل الذى يضعه العقل بادئ ذى بدء ليرتكز عليه فى استدلاله فهو قيد لابد للعقل ان يتقيد به والا لما كان له فكر على الاطلاق .

اضف الى ذلك تلك القيود المنهجية التى يلتزمها العقل فى انتقاله من خطوة فى بحثه الى الخطوة التى تليها …فأين هى أذن حرية الفكر مادام العقل مكبلا فى سيره بقيوده ؟

الجواب على ذلك هو ان تلك الحرية كامنة فى ان احداً مهما بلغ سلطانه لايجوز له ان يفرض على الباحث نتيجة معينة – او فكرة بذاتها مقدما- دون ان تكون تلك النتيجة او هذه الفكرة قد نتجت عن عملية التفكير العقلى نفسها والتى لايقيدها الا قيود ( العقل ) ذاته ولاحظ هنا كلمة عقل هذه لان معناها اللغوى هو ( قيد ) لتعلم ان حرية الفكر مقيدة بقيود نابعة من طبيعتها …

اقول ان للحرية صورا كثيرة واننى فى هذا الحديث سأقتصر على احدى تلك الصور وهى حرية الفكر  – التى اشعر انها فى مصر – وفى الوطن العربى كله – مقيدة بغير قيودها الطبيعية التى ذكرت طرفا منها – اذ هى معرضة للتدخل المسبق من ذوى النفوذ وذوى المصالح فى المجالات المختلفة ، فهؤلاء كثيرا مايفرضون – مقدما – افكارا معينة لابد للمفكر ان ينتهى اليها بعملياته الفكرية وهم لايقفون من المفكر الحر موقف الحياد ،الا اذا كان موضوع البحث بعيدا عن مجالاتهم التى تتصل بأشخاصهم وبمصالحهم …

وان ذلك لنقص خطير فى حياتنا العقلية  – وتتبدى لنا خطورته اذ علمنا ان مصر – بصفة خاصة بين بلدان العالم العربى والاسلامى – قد كانت اسبق من سواها فى العصر الحديث الى الأخذ بفكرة الحرية فى كثير من صورها ومعانيها – فهى مثلا سابقة الى المطالبة بالحرية السياسية والحرية الاجتماعية والى حرية الادب والفن – وكان الامل الا تستثنى انواعا معينة من صور الحرية لتضع امامها العقبات … وفى هذه المناسبة اذكر ان الاديب الانجليزى ج . ب. بريستلى – كان قد اصدر فى اوائل الخمسينيات – على ما اظن – كتابا فى تاريخ الادب كنت قد اطلعت عليه فوجدته قد انتهج منهجا متميزاًوهو يكتب ذلك التاريخ الادبى من خلال انطباعاته هو التى انطبع بها فى قراءاته الواسعة …فجاء تاريخه اقرب الى مذكرات شخصية يعلق بها على الحياة الادبية فى مختلف العصور والعصر الحديث منها بصفة خاصة …والمهم الذى من اجله اذكر هذا الذى اذكره هو اننى وجدته يستخدم مفتاحا ليفهم به روح الفترة المعينة التى يؤرخ لها : استوقف نظرى بطرافته وفائدته وهو ان يبحث فى تلك الفترة عن الفكرة او المعنى او اللفظة التى يجدها اكثر من سواها دورانا على اقلام الكتاب والشعراء فتكون هى التى تشير الى ابرز ماكانت تلك الفترة المعينة تهتم به . فلما صادفت تلك الطريقة التى اتبعها بريستلى فى كتابه ذاك ( وبالمناسبة لقد مات بريستلى صيف هذا العام 1984 عن تسعين عاما ) اقول انه لما صادفت طريقته تلك اعجابا منى اخذت عندئذ بتطبيق الطريقة نفسها على حياتنا الفكرية فى مصر فى تاريخها الحديث وقمت ببعض المراجعات لطائفة كبيرة من اصحاب القلم  عندنا منذ رفاعة رافع الطهطاوى والى الوقت الذى قمت فيه بتلك المراجعة – وكان ذلك فى اواخر الخمسينيات على ارجح الظن…فلم البث ان رأيت فى اجلى جلاء ان فكرة ( الحرية ) على اطلاقها هى التى ظفرت بالنصيب الاكبر فما من كاتب او شاعر او مفكر فى مجال السياسة او التقدم الحضارى او غير ذلك الا وقد سيطرت فكرة الحرية على عقله وشعوره واعتقد ان مايجوز تسميته ( بالمنطقة المحرمة ) فى عالم الفكر والادب قد اخذ يضيق حتى اصبحت تلك المنطقة المحرمة على حرية الاديب والمفكر غير ذات وزن يعتد به خلال العشرينيات والثلاثينيات التى نعدها فترة نهوضنا الحقيقى …لكن حدث بعد ذلك ماشجع اصحاب المصالح فى المنطقة المحرمة ان اخذت تلك المنطقة تتسع وتتسع حتى شملت اطرافا من حياتنا الادبية والفكرية لم يكن يحق لها ان تشملها ولكنها فعلت …

ومن اضر النتائج التى نتجت لنا من اتساع المنطقة المحرمة على الفكر الحر والادب الحر نتيجة اراها فى مقدمة العوامل التى ادت الى رجحان فترة العشرينيات والثلاثينيات على هذه الفترة التى نجتازها وذلك حين نعقد موازنة بين الفترتين واعنى بتلك النتيجة ما قد اصاب الحرية المسئولة من تقلص وضمور والذى اقصد اليه – على وجه التحديد – من عبارة الحرية المسئولة هو تلك الحرية التى يأخذها اصحابها على انها  ( كل ) لايتجزأ …فالانسان الحر – فى هذه الحالة – مسئول عن تلك الحرية بالنسبة الى سائر المواطنين كذلك …فأذا كنا قد – كما اسلفت – نقصر حديثنا هذا على حرية الفكر – كان معنى ما أقوله عند تطبيقه على حرية الفكر هو انه اذا رأى مواطن معين انه هو نفسه لم تحدد حريته فى فكره فذلك وحده لايكفى ان زعم انه حر مسئول عن الحرية…بل ان تلك    المسئولية تقتضى ان يتصدى للدفاع عن ذلك الآخر الذى قيدت حريته فى التفكير حتى ولو كان ذلك الآخر خصما له فى الرأى والرؤية …وذلك لان حرية الفكر فى أمة بعينها – كدت اقول فى الأنسانية  جمعاء – هى ( كل ) لايتجزأ ولكن ماذا تعنى هذه العبارة ؟ انها تعنى فى عالم الفكر ماتعنيه حين تقال عن اى كائن حى فلا يستطيع عضو معين – كالقلب مثلا او الرئتين – ان يعمل لصيانة نفسه وحده وليحدث ما يحدث لسائر الاعضاء …وذلك لما بينه وبين تلك الاعضاء جميعا من ترابط …فاذا فرضنا – فى عالم الفكر – ان استقل مفكر ما بالحرية التى ظفر بها وبعده يكون الطوفان فهو لايبالى …وجدنا ان حريته تلك هى فى الوقت نفسه استبداداً بالآخرين فاذا دافع عن حرية كهذه فهو فى آن واحد يدافع عن الاستبداد كذلك وعلى سبيل التوضيح اعيد هذا المعنى فى عبارة اخرى اقل تجريدا … افرض ان مواطنا ماقد سمح له ان يسئ الى مواطن آخر فى الصحف او فى الاذاعة او فى غيرهما من وسائل النشر ثم لم يسمح لمن اسئ اليه ان يعرض وجهة نظره بالوسيلة نفسها او بغيرها فهاهنا نجد انفسنا امام طرفين كان احدهما ( حراً ) فى عرض فكرته وكان الآخر وبسبب الحرية التى اعطيت للطرف الاول محروما من حريته …فهل يجوز لنا فى حالة كهذه ان نصف الامة التى حدث ذلك فى حياتها  – بأنها امة تأخذ بمبدأ حرية الفكر …انها لاتستحق هذه الصفة الا اذا وجد الخصمان فرصة متساوية فى عرض الرأى او الفكرة او المذهب او كائنا ماكان …مما يتصل بالحياة العقلية …

ولقد شهدت مصر ابان العشرينيات والثلاثينيات أمثلة رائعة للحرية المسئولة بالمعنى الذى حددناه …وهو ان يكون الفرد الحر مسئولا كذلك عن الحرية ذاتها لتكون حقا للآخرين اما فى مرحلتنا هذه التى نجتازها فما ايسر ان يلوذ المواطنون الاحرار بالصمت اذا رأوا تلك الحرية ذاتها تتقلص امام الارهاب بالنسبة لغيرهم ولقد قالها فولتير عبارة قوية وواضحة حين قال : انه لايوافق على رأى خصمه لكنه مستعد ان يقاتل حتى يتاح لذلك الخصم فى ان يعرض رأيه حرا بلا قيود .

اعود الى مخافة الله التى هى رأس الحكمة فى العبارة المحكمة الجميلة التى صادفها الصبى منى وهو فى عامه الثانى عشر صادفها فى كراسة الخط ( مشقا ) ( هكذا كانوا يسمون النماذج التى طبعت فى الكراسة لتحتذى ، ولا اعرف من اين جاءتنا كلمة مشق هذه ) فالتقط الصبى العبارة بذهنه حفظا لا فهما …ولطالما التقط فى طفولته وصباه وبعض شبابه  – عبارات أومفردات لجرسها وايقاعها دون ان يدرك لها معنى … نعم اعود الى عبارة ( رأس الحكمة مخافة الله ) لأعيد معناها ومرماها على نفسى وعلى القارئ معا …فأنت  (حكيم ) بمقدار الثواب فى حكمك على الاشخاص والاشياء والمواقف ( لاحظ العلاقة اللغوية بين حكمة وحكيم ) وانك لتبلغ من تلك الحكمة منتهاها الذى هو فى وسعك ان تبلغه …اذا انت لم تخف احداً سوى الله الذى هو الحق سبحانه وتعالى  ، اما اذا اخذتك الرهبة امام انسان من البشر فقد عرضت صواب فكرك للضياع فالمهم هو بلوغ الحق كما تراه مع استعدادك للتراجع بطوع ارادتك اذا رأيت انك على باطل ولو كان ذلك الحق المشود فى عالم الفكر من الوضوح بحيث يسطع فى اذهان البشر سطوع الشمس على من يتجه اليها ببصره لما تشعبت المذاهب وتفرعت الرؤى …تحت الفكرة الواحدة او فى رحاب العقيدة الدينية الواحدة … عد يا اخى الى تراثنا الذى يعرف كاتب هذه السطور قيمته الكبرى لحياتنا معرفة عاقلة هى خير الف مرة من معرفة آخرين له …التى تشبه فى صورتها ادراك المجنون وهو يصيح فيمن حوله قائلا انه الامبراطور الذى يسيطر على العالمين …اقول عد يأخى الى ذلك التراث فى اى كتاب تقع عليه من الكتب التى اخذت نفسها بتفصيل  اوجه الشبه واوجه الاختلاف بين ما كانوا يسمونه  ( بالفرق ) جمع ( فرقة ) مما ينطوى تحت فكرة واحدة فالفكرة الواحدة او العقيدة الايمانية الواحدة  – لم تفهم دائما على صورة واحدة – بل تعددت فيها الفرق بتعدد وجهات النظر ، ارجع مثلا الى كتاب ( الفرق بين الفرق للبغدادى ) او الى كتاب (الملل والنحل للشهرستانى ) لترى كم تبلغ الفوارق بين رجال الفكر فى طريقة فهمهم للفكرة الواحدة ومع ذلك قلما حدث ان اضطهدت فرقة فرقة اخرى خالفتها فى وجهة النظر ، ودع عنك ان ترميها بما يمس سلامة عقيدتها الدينية ومعنى  ذلك ان الحرية المشتركة التى اسميتها فى حديثى هذا بالحرية المسئولة …كانت هى المناخ السائد فى سماء الفكر فأذا دعونا الى التمسك بتراثنا فى اصوله فأنما ندعو الى الاخذ بكل ماعرفه اسلافنا من دقة فى تحليل المعانى ومن حرية فى ان يأخذ كل بما يراه صحيحا وان يعلنه فى غير خوف الا من ربه ورب العالمين.