د.نوال السعداوى

download

أشرقت الشمس لحسن حظي، فى مدينة لندن خلال مارس 2015،وقد تلقيت الدعوة للتحدث فى مؤتمر المرأة العالمي، وامتلأت القاعة
بمئات الشباب والشابات فى العشرينيات والثلاثينيات من العمر، هؤلاء هم جمهورى اليوم داخل الوطن وخارجه، قرأوا كتبى بالعربية أو المترجمة، بعضهم من البريطانيين، وبعضهم من العرب أو من مصر وبلاد أخرى فى آسيا وإفريقيا، أحفاد وحفيدات الذين هاجروا من أوطانهم، هربا من القهر السياسى أو طلبا للتعليم العالى أو بحثا عن العمل إلى جوارى على المنصة كان يجلس أحد نجوم الإعلام البريطاني، وهو رجل ضخم الجسم ممدود العنق، بدا كالطاووس منفوخا بنفسه، لكنه انتهى منكمشا فى مقعده، بعد أن سقط وجهه وهو يحاورني، وقفت القاعة الكبيرة معى بشبابها وشاباتها وصفقوا لى وقوفا.

كان حديثى يدور حول الإبداع والمرأة والثورة، وعن الشعب المصرى بنسائه ورجاله من جميع الفئات والأعمار، الذين نجحوا فى إسقاط مبارك بثورة يناير 2011، ثم إسقاط حكم الإخوان المسلمين بعد ثورة يونيو2013.

لكن النجم الشهير (كعادة النجوم فى العالم ) لم يكن يدرك ما يحدث فى مصر، بل كان يجهل أبسط الحقائق عن الشعب المصرى ونضاله ضد الاستعمار الخارجى والاستبداد الداخلى، وقد تصور أن ماحدث عندنا ليس ثورة شعبية بل انقلابا عسكريا ضد الحكم الديمقراطى وسألته: أى حكم ديمقراطى تقصد؟ قال: حكم الإخوان المسلمين برئاسة مرسى سألته: هل كان ذلك الحكم ديمقراطيا؟ قال: نعم سألته :كيف عرفت أنه ديمقراطى ؟ قال: جاء حكم الإخوان بالانتخابات سألته: وهل الانتخابات هى الديمقراطية ؟ سكت طويلا فسألته : وهل يمكن لأى حكم دينى، إسلامى أو مسيحى أو يهودى أو غيره، أن يكون ديمقراطيا ؟

لم يكن هذا الإعلامى الطاووسى (الذى يدعى العلم بأحوالنا أكثر منا) هو الوحيد الذى يرفض ثورة يونيو 2013 الشعبية فى مصر، التى أسقطت الحكم الدينى المستبد، بل هناك عدد غير قليل من أمثاله، أساتذة جامعات من البريطانيين، ومن الأساتذة العرب والمصريين، ممن يعتبرون أنفسهم من اليسار الاشتراكى أو الماركسي، هؤلاء فقدوا المنطق البسيط أو البديهيات، خوفا من القوى الحاكمة البريطانية، أو تملقا للقوى الإسلامية التى نمت وترعرعت فى ظل الحكومات المتعاقبة فى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية منذ رونالد ريجان ومارجريت تاتشر .

خلال وجودى فى لندن تلقيت دعوات لإلقاء محاضرات فى بعض الجامعات داخل لندن وخارجها ، فى أكسفورد ومانشستر وجولد سميث، وجامعة أدنبرة فى اسكتلندا وغيرها، وكان أغلب الشباب والشابات، الطلاب والطالبات، أكثر وعيا من الأساتذة، بما يحدث فى بلادنا، وقد رفض المسئولون بإحدى الجامعات فى لندن دعوتى للتحدث بها، وجاءتنى رسالة اعتذار وتوضيح من إحدى الأستاذات البريطانيات بهذه الجامعة تقول لي: اعترض رئيس قسم الدراسات العربية (وهو مصرى أصلا) ورئيسة قسم الدراسات النسائية (وهى عربية أصلا) وكبار المسئولين فى الجامعة من اليسار البريطاني، اعترضوا على دعوتك للحديث بها، بحجة أنك تساندين الحكم العسكرى الحالى فى مصر برئاسة السيسي، الذى اقترف (فى رأيهم)عددا من الجرائم ضد الديمقراطية وحقوق الانسان، وكنت الأستاذة الوحيدة من الإشتراكيين اليساريين، وبعض زملائى أساتذة قسم الدراسات الإفريقية، الذين تحمسوا لدعوتك.

ويدور النقاش الحامى الآن بين الفريقين، المعارض والمؤيد لك، وأخشى أن تغادرى لندن دون أن نصل الى قرار، ولعلك قرأت فى الصحف أن حكومتنا الرشيدة برئاسة كاميرون سوف تعلن غدا (الاثنين 16 مارس 2015) أن الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، لكن هذا دخان إعلامى فقط ، فالحكومة البريطانية تسير على خطى الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبى وإسرائيل، ولا يمكن لكل هؤلاء الاستغناء عن خدمات الجماعات الاسلامية الارهابية، لتفتيت وتجهيل وتخويف الشعوب، ابتداء من تنظيم القاعدة إلى الطالبان الى الإخوان المسلمين وحماس وبوكو حرام وغيرها.

السبت14 مارس 2015 قام كاميرون رئيس الوزراء البريطانى بمشاركة وزير المالية الهندي، بإزاحة الستار عن تمثال المهاتما غاندي، فى ميدان البرلمان، انتصب غاندى نصف العارى بجسده النحيل متحديا البرد عام 1931 فى زيارته الأولى لبريطانيا، حين سأله الملك الامبراطور : لماذا لا ترتدى ملابسك؟ قال غاندي: أنت يا سيدى ترتدى لنا نحن الاثنين. تم بناء هذا الميدان أمام البرلمان عام 1868، بناه المهندس المعمارى تشارلز داري، أمام كاتدرائية وست مينستر آبي،ينتصب فيه أحد عشر تمثالا لشخصيات تاريخية، منهم أول من اخترع النظام البوليسى البريطانى الحديث( الكونستابلات )،هنرى جون تنبل، كان رئيسا للوزراء من 1834 – 1846، بنى تمثاله 1876، ثم إبراهام لينكولن( بنى تمثاله عام 1920) ثم تمثال جان سموث، رئيس وزراء جنوب إفريقيا قبل العنصرية، بنى تمثاله1956، ثم وينسون تشرشل( بنى تمثاله 1973 )، نلسون مانديلا (بنى تمثاله 2007) وينتصب اليوم تمثال غاندي، بين هؤلاء الحكام بملابسهم القوية وأجسامهم الفتية، يقف المهاتما عارى الساقين النحيلتين تنم ملامحه عن الفقر والهزال، لكنه أصبح من أهم الشخصيات الإنسانية التى لعبت دورا فى النضال ضد حكم الذين يقفون معه فى ميدان البرلمان بقلب لندن.

رأيت شابا هنديا، يلف جسمه بشال قديم يشبه الذى يحوط كتفى غاندي، رأيته يتطلع إلى التمثال ويتنهد : إذا كان غاندى قد فعلها فلماذا لا أفعلها وأنا هندى فقير مثله ؟